“من أجل بيسان”.. يكرم العاشق ولا يهان
نجوى صليبه
تبدو رواية عيسى إسماعيل “من أجل بيسان” وكأنّها امتداد لروايتي أيمن الحسن “أبعد من نهارـ دفاتر الزّفتية” و”في حضرة باب الجابية ـ طفل البسطة”، اللتين صدرتا خلال الأعوام القليلة الماضية، ففي الأولى يوثّق لحياة ومعاناة النّازحين الجولانيين في حي قديم من أحياء دمشق اسمه “الزفتية” -لم يعد موجوداً- بعد أن أجبرهم العدوّ الصهيوني على ترك بيوتهم وأراضيهم، وفي الثّانية يتابع الطّريق ذاته، إذ يطرب العمال المياومون ـ في ساحة باب الجابية ـ لكلّ انتصار تحققه الأمة العربية ويحزنون لكلّ نكسة تصيبها، ويهللون لكلّ عملية فدائية يقوم بها المقاوم العربي والفلسطيني، وكما يصف الحسن في هذه الرّواية تسمُّر المواطنين حول المذياع لسماع أخبار بطولات الجيش العربي السّوري في حرب تشرين التّحريرية، يصف إسماعيل على لسان بطله “عابد الحلو” كيف كان ذكر اسم فلسطين في إذاعة دمشق يجعل الأطفال يعتقدون أنّ كلّ ما يتعلّق فيها له قدسية وهيبة وجمال باذخ.
“عابد” الشّاب القادم من ريف حمص إلى دمشق ليدرس الأدب الإنكليزي في جامعتها، يتعرّف على “حسن الفلسطيني” كما كان يلقّبه، ويصبح صديقه المقرّب وبيت أسراره، ورفيق دربه، وشريكه في النّضال، إذ يذهبان إلى لبنان ويخضعان لدورة تدريبية تخوّلهما ـ لاحقاً ـ للمشاركة في عمليات فدائية ضدّ العدوّ الصّهيوني، ولعلّ أبرزها معركة “قلعة الشّقيف”، يقول الكاتب على لسان الرّاوي “عابد”: السّبت، السّادس من حزيران من عام 1982، ومع حلول الليل، تتحرّك آليات الصّهاينة باتّجاه القلعة، تسّلط أضواءها المبهرة على سفوحها، والمقاتلون المتمركزون على السّفوح وفي الأعلى ينتظرون اللحظة المناسبة لبدء المعركة.. يعطي القائد “سمّور” الأمر ببدء المعركة، وبعد دقائق قليلة يدبّ الذّعر في صفوف المهاجمين، ويبدأ بعضهم بالترّاجع نحو الأسفل”.
معركة صادمة للعدوّ، لدرجة أنّ أحد ضبّاطه “دان مردان” كتب في مذكّراته تفاصيل العملية، يذكر الرّاوي بعضها: “صدمنا تماماً، لأنّ عدداً كبيراً من جنودنا قد قتل، أو أصيب إصابات بليغة”، إلى قوله: “المدافعون عن القلعة من الفلسطينيين والسّوريين يواصلون مطاردة الجنود على سفوح القلعة وفي ممرّاتها فيصطادونهم كما يصطادون العصافير”.
الثّامن من كانون الأوّل من عام 1987، يوم أسعد روح “عابد” ووصفه بالقول: هو يوم بدء الانتفاضة الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة، سلاح الأطفال والنّساء والفتيان والشّيوخ، وحواجز النّيران، وأحياناً الطّعن بالسكاكين لجنود الاحتلال، وإلقاء زجاجات الـ”مولوتوف” على قواته.. سيقول جنرال صهيوني متقاعد: لقد أُجبر جيشنا على ملاحقة الفلسطينيين، وكنّا نعتقد إلى وقت قريب أنّه سيواجه الجيوش العربية، بعض جنودنا انتحروا بسبب مدّة الاستنفار الطّويلة.. يجب أن نعترف”.
بالتّوازي مع هذه الأحداث السّياسية المصيرية، تنشأ قصص حبّ ثلاث في مجتمع ما يزال يحجز البنت منذ ولادتها لابن عمّها، اثنتان منها بطلهما “عابد” وتنتهيان لمصلحة المجتمع وعاداته وتقاليده، فـ”وصال” التي أحبّها أيام الجامعة تخلّت عنه لتتزوج من ابن عمّتها، والثّانية “بيسان” شقيقة صديقه “حسن” لم تستطع الوقوف في وجه أهلها وأبناء عمّها الذين لم يتقبّلوا فكرة زواجها من خارج العائلة، فهدّدوها بقتل حبيبها، واعتدوا عليه مرّة بعد خروجه من منزلهم، لكنّه سامحهم من أجلها وأجل عائلتها التي كانت بمنزلة عائلته الثّانية.. أيّام قليلة ويتلقى الصّفعة العاطفية الثّانية، ليس من حبيبته فحسب بل من عائلته الثّانية، إذ رحلوا جميعاً من دون سابق إنذار وإلى وجهة لم يفصحوا عنها، لكنّه وعلى الرّغم من كلّ هذا يصمّم على البحث عنها وإيجادها مهما بلغ الثّمن، وكأنّه يومي إلى استمرار نضاله من أجل فلسطين كلّها لا “بيسان” وحدها.
وأمّا قصّة الحبّ النّاجحة فهي قصّة “حسن”، والتي تولد بعد دخوله مستشفى في بيروت إثر إصابته بإحدى العمليات، وهناك تعتني فيه ممرضة اسمها “سونيا”، فتاة تختلف عنه مادّياً واجتماعياً، لكنّها تتفق معه فكرياً وثقافياً، وللأسف أيضاً تقف عائلته في وجه هذا الزّواج وتطلب منه ترك المخيم في دمشق فترةً من الزّمن إن هو أصرّ على رأيه، لكنه لا يهجر المخيم فقط، بل يغادر سورية إلى لبنان ويتزوج من حبيبته ويسافران إلى تونس، ليحطّ أخيراً ـ بناءً على طلب المؤسسة التي يعمل فيها ـ في إحدى دول الخليج.
من قصّة الحبّ هذه، يمكننا التّعرف على تطور بعض الشّخصيات وتغيّراتها السّلوكية والفكرية وتأثير هذه التّغيّرات على الآخرين، فتحوّل “حسن” كان صادماً بالنّسبة إلى “عابد” الذي لم يستوعب ضعف رفيق النّضال أمام المال، حتّى أنّه لم يستوعب تغيّراته الشّكلية، فـ”حسن” الذي لم يهتمّ بهندامه سابقاً بحجة أنّ هناك ماهو أكثر أهميةً، صار يرتدي “طقماً رسمياً”، وبعد أنّ كان مقاتلاً بالسّر، صار شخصية عامّة يظهر في لقاءات ومقابلات تلفزيونية.. تحوّلات مفاجئة وغير متوقّعة على خلاف شخصيتي “وصال” و”بيسان”، فالأولى وعلى الرّغم من ثقافتها وانخراطها في صفوف النّضال، كان رضوخها لسلطة الأسرة متوقّعاً، أمّا الثّانية فواعية وذكية وكانت تظهر قوّة في بعض حواراتها مع “عابد”، لكنّها لم تملك زمام أمرها أيضاً، وإن رفضت الزّواج من ابن عمّها المطلوب للشّرطة بتهم عدّة، ولعلّ الشّخصية الثّابتة نوعاً ما هي شخصية “عابد” الذي بقي صادقاً في حبه وفكره إلى آخر لحظة.
توثّق الرّواية لمرحلة تاريخية مهمّة ـ كما ذكرنا ـ ويختار الرّوائي عيسى إسماعيل لها الطّريق الأصعب ربّما وهو الوقوف عند أسماء حقيقية وأخرى حركية للمقاتلين الفلسطينيين والسّوريين على حدّ سواء، نذكر مثلاً عبد القادر الكحلاني، وعلي أبو طوق، والشّهيد فواز تالول الشّاب الحمصي الذي تطوّع في صفوف المقاتلين للدّفاع عن القلعة وعُرف باسمه الحركي “الفهد”، ويذكر أسماء رؤساء وكأنّهم أشخاص عاديين، لذا كان يفضّل أن يسبقها بكلمة الرّئيس..، وكان من الأفضل أيضاً أن يذكر اسم رئيس وزراء العدوّ الصّهيوني كاملاً “مناحيم بيغن” بدلاً من الاكتفاء بذكر الاسم الثّاني فقط.
المكان في هكذا رواية أمرٌ مهمٌ وضروري، اشتغل عليه إسماعيل بدقّة من دون الغوص كثيراً في تفاصيل حارات حمص ودمشق ولبنان، إذ كان كافياً وصفها على لسان إحدى الشّخصيات بعبارة موجزة تحرّك الخيال والذّاكرة، ولاسيّما تلك التي يربطها بذكرى أليمة أو حدث جلل، وأمّا المكان الغائب الحاضر دائماً فهو فلسطين وبياراتها وعراقتها التي نتعرّف عليها في هكذا روايات من خلال أحاديث الأمّهات والجدّات الفلسطينيات، وهي أحاديث لا نهاية لها كما أراد الرّاوي لروايته.
يُذكر أنّ الرّواية صادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق ضمن سلسلة الرّواية 2023.