منذر مصري بين قصيدة النثر والتداخل بالمدارس التشكيلية
ملده شويكاني
لم يكتفِ منذر مصري بالرسم، إذ دخل عالم الشعر ليصبح أحد الشعراء الذين ضمتهم “أنطولوجيا الشعر العربي المعاصر” التي صدرت باللغة الألمانية عام 2000، وهم: نزار قباني– سنية صالح- محمد الماغوط.
مثل منذر مصري الشعر العربي السوري المعاصر متبنياً قصيدة النثر، حيث ترجمت بعض قصائده إلى اللغة الفرنسية، وصدر له أكثر من عشرين كتاباً في الشعر والمقالة والمسرح والسيّر في دمشق وبيروت والقاهرة، منها “حقل الفخاري” الذي يضمّ مشهديات لأربع مسرحيات، و”من الصعب أن أبتكر صيفاً” و”لأنني لستُ شخصاً آخر” و”رحلات شقائق النعمان” شعر.
الغواصة الغارقة
ورغم شهرة منذر مصري الشاعر إلا أنه لم يستطع أن يبتعد عن الريشة والألوان وبقي مرسمه في حيّ الأمريكان في اللاذقية، الذي يطلق عليه الغواصة مملكته وملتقى لأصدقائه ومحبيه والكثير من المثقفين، والمؤسف أنه تعرّض للاحتراق عام 2019 بسبب ماس كهربائي أفقده الكثير من الكتب في مكتبته والعديد من اللوحات والمقتنيات وما يضمّه أرشيفه من صور وأسطوانات وقصائد لآخرين، كما طاف مرات عدة حتى أطلق عليه الغواصة الغارقة.
مصري- سوري
ولد في اللاذقية عام 1949، والده من أصول مصرية، ووالدته خالديه نحلوس من سورية، وشقيقته الشاعرة مرام مصري، تخرّج من كلية الاقتصاد في حلب، ثم حصل على دبلوم التخطيط الاقتصادي من وارسو –بولونيا- وشارك في ملتقيات شعرية دولية، وله العديد من المعارض الفردية والمشاركات الجماعية، إضافة إلى العروض الشعرية البصرية التي أقامها في دمشق وحلب وكافالا في اليونان.
التفاؤل
وارتبطت أعماله الشعرية والتشكيلية بالوجع الإنساني وتصوير الواقع، ودعا في مقاطع عدة من قصائده، كما في “رحلات شقائق النعمان” إلى التفاؤل بالأجمل: “تكفيني نقطة ماء لأسقي زرعي.. لأستحم ثلاث مرات في النهار.. وأغرق ثلاث مرات في النهار.. تكفيني نقطة ماء.. لأفتح عينيّ طوال الوقت.. لأشعر بأني على ما يرام.. ولو بدون امرأة تكفيني شجرة”.
وفي مقطع لأرى الدنيا سوداء يعبّر عن مسار الحياة الذي لا يتوقف: “ابتعتُ منظاراً أسود.. وغمّستُ بالحبر الصيني الأشجار والبيوت.. ولقنتُ لساني وأصابعي كآبة الشعراء.. في حين أن الآخرين لم يتكلفوا شيئاً أكثر من الاستيقاظ باكراً قليلاً”.
اتباع وتقليد
القصيدة النثرية كانت مفصلاً مهماً في حياته، وقد تحدث عنها بحواراته واستحضر تجارب غيره من الشعراء، ليخلص إلى “نعم فقد فقدت قصيدة النثر هذا التمرد، هذا الشرف، صار هناك أناس يكتبونها دون أن يفكروا بالخروج عن شيء، صارت قصيدة النثر مثل ما كانت عليه قصيدة العمود، قصيدة التفعيلة، تُكتب اتباعاً وتقليداً”.
التجريب والتداخل
كان الرسم بوابة دخول منذر مصري عالم الشعر، وكأن الخط واللون قاداه إلى الشعر دون أن يدري، كما ذكر في أحد لقاءاته: “نعم كنتُ رساماً قبل أن أكتب الشعر، وبقيتُ لليوم أرسم وأشارك وأقيم من حين لآخر معارض رسم، وقد ردّدتُ مراراً، أنني دخلت الشعر من دون أي استعداد مسبق، فطرياً كان أو بيئوياً، ومن دون قدرة لغوية أو ثقافية يعتد بها، لذلك كان عملي بمجمله في رأي كثيرين أقرب إلى التخريب الشعري منه إلى التجريب الشعري الذي أدّعيه، لأنني كنتُ أسير نزعة داخلية قوية تؤدي بي لرفض المقولات والأسس الشعرية العربية القديمة والحديثة كلها في آن واحد”.
مدارس عدة
وكذلك بالرسم لم يؤطّر تجربته التشكيلية بمدرسة بل بتداخل تشكيلي بطله الزمن، كما ذكر في أحد لقاءاته: “لا أستطيع تحديد مدرسة معينة، يمكن لتجربتي التشكيلية أن تنضوي تحتها، أرسم بأسلوب واقعي وتجريدي، وأنا رسام خط بالأساس، لا أرسم شيئاً، أرسم الزمن”.
شجرة الرصيف
ومن المحطات المهمّة إقامة معرضه “شجرة واحدة تكفيني” في مرسمه الصغير المكتظ باللوحات والتماثيل والكتب والأسطوانات وأدوات الرسم والكثير من الألوان، جسّد فيه شجرة الرصيف في حارته في حي الصليبة، التي بقيت بالذاكرة والقلب.
البرجوازي الأنيق
وُصف بالبرجوازي لأناقته وتأثير نبرة صوته وقدرته السردية، واشتُهر بطقس اجتماعي يتوّج بلقاءاته مع أصدقائه المثقفين، ومنهم الراحل عادل محمود، فقال عنه: “لم يخلق عادل محمود ليكون شاعراً، أردّد كالببغاء، بل خلق ليختار عن وعي وعاطفة وحاجة الشعر كطريقة رائعة للحياة، وربما أيضاً كطريقة رائعة للموت”.
عُرف بموقفه الوطني المؤكد على عدم مغادرة سورية رغم كل أهوال الحرب وقسوة الحصار، متمثلاً مقولة أستاذه إلياس مرقص: “لا يوجد يا منذر خلاص فردي، الخلاص دائماً جماعي”.
معرض استعادي
وربما يكون منذر مصري الشاعر تفوّق على الرسام وربما كانا في صف واحد، ومن أجمل ما قاله: “سورية بلدي، كما خالدية أمي”، ومؤخراً أقام معرضاً استعادياً له في صالة البيت الأزرق في دمشق، بمشاركة الصديقين اللذين ارتبط معهما بصداقة قوية، مأمون صقال وسعد يكن، بعنوان” لوحات ورسومات 1970-1971″ احتفظ بها في مرسمه لأكثر من نصف قرن، وقد بيّن هذا المعرض تطور التجربة الإبداعية لكل واحد منهم، فأصبح سعد يكن الملقب بالمايسترو الأكثر شهرة بعالم الرسم، بينما مأمون صقال أصبح خطاطاً ذا شهرة واسعة، ومنذر مصري أصبح شاعراً ورائداً من روّاد قصيدة النثر.
أخيراً نأمل من الشاعر والرسام منذر مصري أن يقيم معرضاً يختزل تجربته التشكيلية الكاملة في دمشق.