روسيا تقفز فوق محاولات عزلها.. إفريقيا تمضي قدماً نحو حرية قرارها
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
لقد كانت القمة الروسية الإفريقية التي عُقدت مؤخراً حدثاً هامة لروسيا التي ما زالت تسعى لتعزيز انفتاحها على جميع دول العالم، ولـ49 دولة إفريقية حضرت القمة مع بنك “بريكس”، في تحدٍ كبير للإرادة الغربية يُثبت أن العالم متعدّد الأقطاب ماضٍ في خطاه الواثقة مهما بلغ حجم التحديات، وأن إفريقيا اليوم باتت تشكل قطباً ولبنة أساسية في تشكيل هذا العالم، وتتحدى قرارات دول الغرب التي باتت تعرقل أبسط حقوق الإنسان وعلى رأسها الحصول على أمنه الغذائي، وبالأخصّ بعد أن أوصلت اتفاقية نقل الحبوب من أوكرانيا 3% فقط من النسبة المقرّر وصولها إلى إفريقيا التي تعاني شعوبها مجاعات حقيقية مميتة رغم الرعاية الأممية للاتفاق، في حين صبّ النصيب الأكبر من القمح في بطون الدول الغربية الغنية التي باتت تستخدم القمح الأوكراني علفاً لمواشيها نظراً لكثرته في بلادها.
رغم مراهنة الغرب وحربه الدعائية وتهديده للدولة المضيفة والدول الحاضرة، نجحت القمة في الانعقاد مرسلةً العديد من الرسائل للعالم أجمع، يأتي في مقدمها التأكيد على متانة العلاقات الروسية الإفريقية، وخاصةً في هذا الوقت الذي يشهد توترات جيوسياسية عالمية إبان الحرب الأوكرانية واستغلالها من الغرب لفرض الحصارات والعزلة على روسيا، إضافةً إلى منح الخيار في التنافس المحموم بين الشرق والغرب على الاستثمار في القارة الإفريقية الغنية بمواردها الطبيعية وحوامل الطاقة والمعادن، حيث دخلت روسيا القمة بهدف الانفتاح على تلك الدول، وكسر أي عوائق قد تتسبب في عزلها نتيجة آلاف العقوبات الظالمة، كما تسعى موسكو لتأمين أسواق واستثمارات وبناء شراكات جديدة وقوية في القارة السمراء، والحرص على عقد اتفاقيات تبادل بالعملات المحلية لإقصاء الدولار وتقليل الكلف، ناهيك عن كسب الدعم والتأييد في مختلف المحافل الدولية من الشعوب الإفريقية وقواها الوطنية، كما عرضت روسيا تقديم منح لشعوب إفريقيا بهدف مساعدتها في ظروفها الإنسانية والسياسية الصعبة التي تمرّ بها وكان على رأسها إرسال الحبوب مجاناً ودون قيد أو شرط، وهو ما فشل الغرب القيام به على مرّ العقود.
تعتبر إفريقيا من أكثر القارات تعطشاً للعالم الجديد نظراً لما عانته من ظلم وإجحاف في ظلّ حقبة الاستعمار الغربي القديم، وما تبعها من استغلال وعلاقات غير متوازنة كانت الكفة فيها راجحة في العودة بالفائدة على الطرف الغربي حصراً، في حين تغرق شعوبها في الفاقة والأزمات وعدم الاستقرار السياسي، وما تبع ذلك من عملية انتقام أمريكي ممنهج ضدّ الدول الإفريقية التي كانت تسير في هدي الاتحاد السوفييتي بعد تفككه، حيث عملت على ضرب استقرارها السياسي عبر دعم الانقلابات وتغذية الصراعات وإرسال دفعات من قواتها تارةً بشكل عسكري، وتارة أخرى تحت غطاء “إنساني”، ناهيك عن إنشاء مجموعة من القواعد العسكرية في القارة وقوات “أفريكوم”، فكل تلك العوامل ورغم قسوتها سببت نضوجاً غير مسبوقاً لشعوب إفريقيا وزعاماتها، قابله تعدد للقمم من جميع كبريات قوى العالم للانفتاح على تلك الشعوب، حيث عقدت قمم “روسية وصينية وأمريكية ويابانية وفرنسية وألمانية” تؤكّد جميعها حرص ومسارعة كل الأطراف على بناء علاقات اقتصادية وسياسية مع الدول الإفريقية.
كل المؤشرات تؤكّد الآن أن القرار الإفريقي لم يعد مصبوغاً باللون الغربي كما في السابق، بل بات يتخذ بهدف تحقيق المصلحة الإفريقية بالدرجة الأولى، رغم الصراعات والضغوطات، وعلى سبيل المثال فإن القمة عقدت بحضور 17 زعيماً إفريقياً من أصل 49 دولة حاضرة، رغم التهديدات الغربية بفرض العقوبات وقطع المعونات وحتى التهديدات الشخصية للزعماء وأسرهم، والاتحاد الإفريقي الذي كان يعتمد على الغرب ومساعدات الدول المانحة، والتي هي أساساً تمثل أجزاء مما كانت تنهبه تلك الدول من ثروات القارة أصبح اليوم يتمتع بالاستقلال بعد رفضه تبعية دول الاستعمار القديم، وبات قادراً على إجبارها على التفاوض معه بشكل يحقق العدالة بين طرفي العلاقة، وخير مثال على ذلك الصفقات والاستثمارات التي أقامتها رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميوني مع دول إفريقية خارج القرار الأوروبي، والعقلية الفرنسية الاستعمارية بهدف تأمين حوامل الطاقة لبلادها، وما يرافق ذلك على المقلب الإفريقي من طرد للنفوذ الفرنسي الاستعماري في دول إفريقيا، وما تبعه من المحاولات والمبادرات الفرنسية والأمريكية التي تدّعي “تجديد الخطاب” نحو دول القارة، والاعتراف بأن العلاقات السابقة كانت ظالمة لدول القارة لجهة الفائدة.
بالمقابل فإن التواجد الروسي في هذه القارة هو طوعي ويرقى أحياناً إلى درجة المطلب الشعبي الإفريقي، حيث شاهدنا العديد من المظاهرات في دول إفريقية ترفع الرايات الروسية طالبةً عون روسيا، ورافضةً التدخّل أو الوجود الغربي، ما شدّد حرب الغرب على الوجود الروسي من خلال فرض عقوبات أحادية على شركة “فاغنر” الروسية الخاصة، واعتبارها منظمة إرهابية، والعمل على عرقلة ذلك الوجود سياسياً ودبلوماسياً من خلال إرسال الوفود الأمريكية والغربية التي تحاول إجبار الدول الإفريقية على قطع العلاقات مع روسيا، كما تكمن البراغماتية أيضاً في أن موسكو لا تمانع في وجود أي أطراف أخرى في القارة حتى لو كانت غربية، لأن إفريقيا ببساطة بحاجة لجهود الجميع وعلى جميع الصعد للنهوض بواقعها وتحقيق الأمن الغذائي وأمن الطاقة والتنمية السياسية والاجتماعية لشعوبها، وبالتالي فإن الجهود الروسية لوحدها غير كافية، لكن في الوقت نفسه ترفض روسيا أن تتم محاربتها دون سبب من الدول الغربية أو أي قوىً لمجرّد الرغبة في إقصائها عن المشهد في القارة السمراء.
تمثل القمة الروسية الإفريقية شكلاً من أشكال احتدام الصراع بين شمال العالم وجنوبه الذي بات الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى يعلن رفضه لهيمنة دول الغرب الجماعي، والسعي نحو البراغماتية في تطوير المستقبل على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية، ومن جهةٍ ثانية تمثل هذه القمة إثباتاً لأهمية الدور العالمي للقارة السمراء لأنها الحضارة والقوة والموارد الطبيعية، كما تثبت أن روسيا تشكل همزة الوصل بين تلك القارة ودول العالم مهما حاول الغرب إقصاؤهما من المعادلات فهي ماضية لإعادة نسج علاقات الاتحاد السوفييتي ضمن القارة، وإعادة دعمه السابق لكل حركات التحرر الوطني والحركات اليسارية في تلك القارة، في وقت يستمر الغرب بعقليته المتحجرة وابتداع أسلحة جديدة لضمان تبعية الدول، وآخرها الإخلال بأمن الطاقة واستخدام السلاح الأخضر ” تجويع الشعوب” أملاً في استمرار تفوقه المتآكل.