مجلة البعث الأسبوعية

فشل الضغط الغربي في مصادرة القرار الإفريقي

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

استضافت سانت بطرسبرغ القمة الروسية الأفريقية الثانية التي جرت في الفترة من 27 إلى 28 تموز الماضي، وحضرها 17 رئيساً من رؤساء تلك القارة متحدين  بشجاعة مع المشاركين الآخرين، من بينهم خمسة  نواب رؤساء وأربعة رؤساء حكومات إلى جانب العديد من الوفود الوطنية، الضغط الغربي لحضور هذا الحدث، بعد أن حاولت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إقناعهم بعدم حضور القمة.

شاركت الغالبية العظمى من الدول الأفريقية بشكل ما بعد أن رفضت خمس دول فقط إرسال ممثلين إلى القمة. مع الإشارة إلى أن أكثر من نصف القارة صوتت ضد روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة  مرة واحدة على الأقل منذ بدء عمليتها الخاصة في أوكرانيا، وهذا يعني أنه لا زالت هناك دولاً مصممة على توسيع العلاقات مع روسيا على الرغم من خلافاتهم حول الوضع في أوروبا الشرقية.

لقد فشل الضغط السياسي والإعلامي الغربي في التأثير على الحدث لأن الدول الأفريقية تقدر الطرق التي يمكن لروسيا أن تساعدها من خلالها على تعزيز سيادتها خلال هذه الأوقات التي لا يمكن التنبؤ بها. حيث دعم الاتحاد السوفييتي السابق حركات الحرية الخاصة بهم، وساعد بشكل شامل العديد منهم في بناء دولتهم بعد ذلك. لكن مع الأسف، واجه الاتحاد الروسي العديد من التحديات المحلية بعد الاستقلال، ولم يتمكن من استئناف هذا الدور الدولي إلا مؤخراً.

سعى الرئيس فلاديمير بوتين للتعويض عن الوقت الضائع خلال القمة الروسية الأفريقية الأولى التي عقدت في تشرين الأول عام  2019 ، لكن جائحة   كوفيد-19، ثم الحرب بالوكالة بين الناتو وروسيا في أوكرانيا أعاقت تنفيذ خطة عملهما. ولكن رغم كل ذلك لم تتدهور العلاقات الروسية الأفريقية خلال ما يقرب من أربع سنوات منذ آخر اجتماع متعدد الأطراف، ويمكن القول في الواقع أن روسيا أصبحت أكثر أهمية لبعض شركائها الأفارقة خلال هذه الفترة أكثر من أي وقت مضى منذ عام 1991.

لقد تسببت العقوبات الغربية المعادية لروسيا التي فُرضت بعد بدء عمليتها الخاصة في أوكرانيا في مشاكل لشركائها الأفارقة، والتي لم يتم حلها على الرغم من مبادرة حبوب البحر الأسود التي رفضت موسكو تمديدها مؤخراً بعد أن اتهمت الغرب بعدم الوفاء بالتزاماتها في الصفقة. ومع ذلك، وعد الرئيس الروسي بوتين خلال القمة الأخيرة بشحن الحبوب الأكثر احتياجاً مجاناً بحلول نهاية العام.

يقود هذا التحليل إلى مناقشة الجوانب الأخرى للحدث لأنه يتعلق بأكثر من مجرد تعزيز التعاون الزراعي الروسي الأفريقي. وتماشياً مع موضوع “السلام والأمن والتنمية”، تمت مناقشة العلاقات العسكرية بشكل ثنائي مع الدول المهتمة سراً ، و لم يتم الكشف عن التفاصيل علناً بسبب حساسيتها. بالإضافة إلى ذلك، تمت مناقشة التعاون الأكاديمي والطاقة والمالي والصناعي والمؤسسي والإعلامي وأشكال أخرى من التعاون.

إن ما يربط كل شيء معاً هو أن التوسع الشامل للعلاقات الروسية الأفريقية في كل من هذه المجالات يعزز رؤية الرئيس بوتين لمساعدة شركاء بلاده في القارة على “تعزيز السيادة الوطنية والثقافية” مثلما تعهد بالقيام به قبل القمة، حيث تحدث بانتظام عن هذا المفهوم منذ بدء العملية الخاصة، والتي يعتبرها شرطاً أساسياً للشراكات المفيدة للطرفين.

ومن الجدير بالذكر في هذه المرحلة إلى أنه تنضم أي دولة أفريقية إلى عربة العقوبات الغربية المعادية  لروسيا على الرغم من الضغوط الهائلة التي تعرضت لها للقيام بذلك. وهذا يشمل أولئك الذين صوتوا ضدها مرة واحدة على الأقل في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لم يحدث من قبل وأن اجتمعت أفريقيا كلها على هذا النحو، فقد بات من الواضح  أنها تريد أن تظهر للمجتمع الدولي أنها مستقلة فعلياً ولن تسمح للمستعمرين السابقين بعد الآن بإملاء سياساتهم. صُدم الغرب بهذا الموقف غير المسبوق للسيادة، ولهذا بدأ مسؤولوه ووسائل الإعلام في شن حملة حرب إعلامية ضد روسيا في محاولة يائسة لإقناع الدول الأفريقية بفرض عقوبات عليها. ومن الأمثلة على ذلك الادعاءات الكاذبة بأن مستشاريها العسكريين مسؤولون عن الفظائع والكذب بأن روسيا تقوم بتسليح المجاعة في إفريقيا. ومع ذلك، لم تتأثر أي دولة أفريقية  بذلك أو تقوم بفرض عقوبات على روسيا، ولا حتى أولئك الذين لم يحضروا القمة الأخيرة. فالجميع يعلمون أن مصالحهم الوطنية الموضوعية يتم خدمتها على أفضل وجه من خلال إبقاء خياراتهم الاستراتيجية مفتوحة، وعدم قطع الجسور مع أي من شركائهم بغض النظر عن الضغوط الخارجية المفروضة عليهم. وفي هذا الإطار تُعتبر روسيا شريكاً موثوقاً به تاريخياً يمكن توسيع العلاقات معه في أي مجال تريده أي دولة أفريقية، والتي يمكن أن تساعد في التنويع من اعتمادها غير المتناسب سابقاً على الغرب مع استكمال جهودهم لتنمية علاقات أوثق مع الصين.

لا تفرض روسيا أية قيود على  مساعدتها الزراعية والعسكرية، كما لا تعلق الصين أياً من استثماراتها في البنية التحتية والوصول إلى الأسواق، حيث تتضافر هذه الأشكال من التعاون لتعزيز سيادة الدول الأفريقية. علاوة على ذلك، فإن هذه الدول الكبرى صادقة أيضاً في رغبتها في تحسين العلاقات بين الشعبين، وخاصة التبادل الأكاديمي والتدريب على المهارات، ويعود السبب في ذلك هو أنهم يتصورون أفريقيا ككل تعمل كقطب مستقل في النظام العالمي متعدد الأقطاب الناشئ.

وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، إذ يربط الزوج الأول بعض الخيوط  بجميع أشكال المساعدة من أجل إبقاء إفريقيا تابعة لها، بينما لا يربط الزوج الثاني أبداً أياً مما سبق ذكره لأنه يريد تمكين صعود إفريقيا. وفي هذا السياق لا يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قبول نظام دولي لا يقودانه، بينما تسعى روسيا والصين جاهدتان  لبناء نظام عادل، حيث تتساوى جميع الدول بغض النظر عن حجمها.