الانتماء للأرض .. نص فني مقارن بين الفنانين السوري عمار حسن والأمريكي لويس سيغريست
تكمن حقيقة العمل الفني في شكل وجوده في العالم، وشكل العمل الفني في مرئيّه ولامرئيّه هو الوجود الذي تكمن فيه حقيقة فنيّة الفنان، وفنيّة الفنان تعني مقدار الاتصال الواعي بين الكون والذات مترافقاً مع خبرات تقنية تعكس مقدار ونوعية هذا الاتصال.
الأمر ليس سهلاً أن يصل الفنان الى حالة النضج والإثمار الخاص الذي يعبر عن طاقة الفن من خلال الأداة التي تشمل الفنان وأدوات وتقنيات انتاج العمل الفني، ومن هنا يمكن الحديث عن تحقق حالة إبداعية بقدر ما يتحقق كل ما سبق، فإذا كان الفن هو الاستخدام الواعي والمبدع للمهارة سنجد أن مهارات لويس سيغريست لا تقتصر على التأثيرات المدرسية على أسلوبه وتقنياته التي تجلّت بالانطباعية والتأثيرية من بعدها ووصوله الى الوحشية بل تجاوزها ليجد نفسه أخيراً في التجريدية التي لخّص بها ما سبق من مشاهد للطبيعة الخليوية..
من هنا ستكون المقارنة مع الفنان عمار حسن من سورية، إذ يلتقي ولويس بتجريد الطبيعة الخليوية كلٌّ بطريقته وبجملة من الخبرات السابقة التي وسمت الأسلوبين، ليس هذا وحسب، بل في كيفية النظر الى الطبيعة الخلوية كحالة روحية تأملية وجمالية مؤثرة، فلويس راكم خبراتٍ عريضة في رسم المنظر الطبيعي واقعيّاً وانطباعيّاً ووحشيّاَ حتى تشرّبه عميقاً في روحه فكان أن أعاد انتاج هذا التراكم من المشاعر تجاه الطبيعة في كاليفورنيا ونيومكسيكو وغيرهما لدرجة أنه كان يعيد ويراكم إنتاج انتمائه للمكان وعاطفته نحوه بخبرات فنية قديمة ومتجددة تبعا لسوية الوعي التي وصل اليها، وها نحن اليوم نتشارك معه هذه المشاعر التي عايشها تجاه الأمكنة، وليس التنويع في تصوير هذه الأمكنة تشكيليّاً وتلك البيوت إلا نوعاً من غنى الأحاسيس ومقدرةً على التعبير عنها تقنيّاَ ومدرسيّاً كلّ مرة.
الأمر عند عمار يختلف، فهو لا يرسم مشهداَ يعرفه بل مشهداً تخيليّاً تأمليا لمكان يعيش فيه وينتمي اليه، مكان لم تصل إليه يد البشر، مكان نقيً غير ملوّث وهكذا كان حاله عندما قدم معرضه primaeval من سنوات، فالعنوان Primaeval يتضمن بتولية الرؤية، وبهذا يؤكد عمار انتماءه لبدء الكون، لتلك الحالة السائلة الأولى، التي يحاول ان يعيشها كل مرة، وهذا هو الاختلاف الأساس بين توجّه الفنانين في رسم الطبيعة الخلوية، وهذا بدوره يفرض تقنيات وخامات طوّعها كلّ من لويس وعمار لتناسب محتواه البصري الفني الخاص.
استطاع لويس أن يأخذنا لحالاته العاطفية تجاه الأمكنة التي أحبها، وبلغته الفنية جذبنا أكثر لمواطن الجمال فيها، فكان أن خلّد هذه المشاعر، بينما استطاع عمار أن يبحر بنا الى حالة النقاء الأول ليخاطب فينا الفطرة الأولى وبذلك يكون قد ألمح الى الخروج من توحّش المدينة الى آفاق الطبيعة البكر، بل لطبيعتنا الإنسانية الأولى التي لا تعرف التوحش.
استطاع كلا الفنانين عبر ملمس اللوحة والتأثيرات التي أحدثاها على السطح أن يأخذنا كلّ منهما الى جوهر التعبير النفسي ، فعند لويس انعكس الزمني العاطفي الذي عايشه مع الجغرافيا التي ينتمي اليها، فهو لم يعد يرسم الطبيعة والبيوت انطباعيا أو وحشيا بل تجرّد وتحلّل هو نفسيّاً في المشهد وفي عجينة اللون وتأسيساته، ليكون السطح وما تحته، وهو ذروة ما يصل اليه الفنان بأنه تحوّل ولوحته الى كلًّ واحد، بينما ترك عمار الزمن سائلاً ومتحركاً، فكانت الحالة العاطفية متحرّكة ومتأجّجة كحال الطبيعة التي تتوالد للتو، فهو لا يريد أن يخاطب المتلّقي بجغرافيا محددة بل يريد أن يخاطبه بكلّ الكون، ففي الوقت الذي يتجٍه عمار الى حالة كونيّة نرى أن سيغريست يجد كونه وعالمه الحميمي في كاليفورنيا او نيومكسيكو.
من حيث المبدأ فإن كلا الفنانين غرقا في هاجسيهما وصدّرا الى الآخر رسالة انتماء للمكان والأرض بتقنيات مشتركة الى حدّ ما، يختلف فيها عمار بطبيعة مواد وخامات سائلة القوام من أحبار ومائيات ومواد مختلفة، بينما حكمت لويس خامات عصره فكان أكثر تركيزاً على العجائن اللونية والتأسيسات السميكة للسطوح، وهذا بعكس عمار فهو غالباً ما يرسم بشكل مباشر على السطح أو على تأسيس خفيف، ليترك اللوحة غير مقيّدة بأساس محدد، وبذلك يكون أكثر حرية في تدفّق الماء واللون ليشكلا الصورة الحلمية..
رغم الاختلاف الجغرافي والزمني بين الفنانين إلا أن عشقهما للطبيعة كملاذ روحيّ وجماليّ يوحدّهما في الأثر العاطفي تجاه الأرض والتراب بلونه البنيّ، بكلّ طيف ألوانه في باليت الحب، لويس أحب وطنه والتراب الذي انتمى إليه، وكذلك عمار أحب وطنه والتراب الذي انتمى إليه وشكل ذاكرته الأولى، وبذلك يكونا قد قالا ذات الكلمة بلغتين مختلفتين في الزمان والمكان، ننتمي الى هذه الأرض، وهذا سبب كاف لتقاسم المحبة.
د. رنده مارديني