“الحكيم” الحب والحكمة منقذانا من خرابنا
سلوى عباس
الحب والقيم الإنسانية هي النافذة التي تطل منها الكاتبة ديانا جبور على الحياة، في أول تجربة سينمائية لها “الحكيم” بتوقيع المخرج باسل الخطيب وإنتاج المؤسسة العامة للسينما، ما يجعلها رحيمة بشخصياتها وحنونة عليها، إذ معظم شخصياتها هم ضحايا لظروف مختلفة ومتعددة، لذلك كانت أحداث الفيلم مشغولة بالمغامرة المحاطة بنبض القلوب وشفافية الروح فتحاول الكاتبة بث النسغ في موجودات الحياة وتعيد لها تألقها، برصدها للتغيرات الاجتماعية مابعد الحرب ضمن حدود القرية والدلالة الإنسانية في رمز متفق عليه هو “الحكيم” بمدلولاته الطبية والفكرية والاجتماعية، إذ رأت في المجتمع الريفي المكان الأمثل لقراءة هذه التغيرات، حيث أن هذا المجتمع كان المتضرر الأول في هذه الحرب. وهنا يُحسب للكاتبة انحيازها للقضايا الإنسانية التي تمثل جزءاً مهماً من اهتماماتها، فصاغت النص ببناء درامي عالي المستوى قدّم هوية كل شخصية بموضوعية، ورؤية واعية ضمنتها النص حول الحب الذي يمثل المنقذ الوحيد لنا من هذا الخراب والذي ترجمه المخرج باسل الخطيب بصور سينمائية تعبر عن رؤية ثاقبة متمرسة، حيث يحاول في كل أفلامه التأكيد على سمو الوطن في داخلنا بعيداً عن الشعارات الفارغة من المعاني الوجودية والروحية الكبيرة، وهذا ما أكدته أحداث فيلم “الحكيم” الذي يتبنى فكرة أن الخير لا يموت بين الأخيار.
يروي الفيلم حكاية طبيب كرس خبرته الطبية والحياتية لخدمة أهل القرية الذين كانوا ينادونه بـ “الحكيم” انطلاقاً من أسلوبه في التعاطي مع أوجاعهم الصحية وقضاياهم الإنسانية حيث يرى نفسه يتقاسم معهم مصائرهم، فالحرب أفسدت على الناس الطيبين أوقات راحتهم، وفرحتهم وأدمت قلوب الكثيرين، لكن هناك شيء ما يبقى قاسماً مشتركاً بين الناس، وأقوى من حب الإنسان للإنسان هو حب الوطن والحياة.. هذا الحب كان الرابط بين شخصيات الفيلم، فالوطن يكبر بأبنائه وهم يكبرون به، وهم سياجه المنيع يصونونه ويدافعون عنه، وهذا ما جسده الفنان دريد لحام بشخصية الحكيم جابر عبد الودود في الفيلم فكان مشرقاً بالحلم والمحبة والسلام، يحمل في وجدانه وطنه سورية بكل تاريخها، وبكل ما تعانيه من نزف وألم، يعيش في هذه القرية الوادعة مع حفيدته (ليا مباردي) التي تمثل الحياة بكل إشراقاتها، فمع أنها إبنة هذه الحرب، إلا أنها تمثل حالة من التفاؤل والأمل، وهذا ما يتجلى عندما تذهب مع جدها لمعالجة مريضة تعيش حالة من السبات إثر فقدها لابنتها، فيدفع الفضول الحفيدة للعب بآلة الرق التي كانت ابنة المريضة تلعب بها، وكان هذا اللعب محرضاً لذاكرة المريضة وأحاسيسها بأن بدأت تستفيق من غيبوبتها، وكذلك قدرتها على بث الحياة في أي مكان تكون فيه، وتحريك مشاعر شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتعليمه الرسم.
لكن يد الخراب والفساد تمتد إلى هذه الحفيدة فتخطفها، وهنا يتكاتف جميع أهل القرية في البحث عنها وتحريرها من خاطفيها، في خطوة لرد الجميل للحكيم الذي كان سعيداً بهذا التكاتف الاجتماعي والإنساني مؤكداً عبر حديثه معهم أن هذه المرحلة الصعبة التي تعيشها سورية ستتخطاها بعزيمة أبنائها المؤمنين بوطنهم وبدوره الثقافي والإنساني، وتصميمهم على رفع راية التآخي التي جمعتهم دهراً يشهد له العالم كله، وأن الغد سيزهر في سورية، وكل شخص سيبقى تاريخه ملازماً له وحده، وسيتجلى كل إنسان بضميره الذي يخدم قضيته.
وفي عودة للرؤية السينمائية للفيلم نرى تعدد مستويات المشاهدة والقراءة لكل عمل من أعمال المخرج باسل الخطيب بطريقة تختلف بعمقها عما سبقها من قراءات، حيث يقدم أعماله بلغة سينمائية تفيض بالإنسانية والحس المرهف الذي اعتدنا عليه، ما يجعل هذه الأعمال قريبة من أرواحنا تخاطبها بشفافية وصدق وكأنها تتحدث عن حالة كل واحد منا.
أما الإمتاع فهو المعبر الرئيسي الذي يعبره المضمون ليتحول إلى شكل فني يتفاعل معه الجمهور، والمخرج الخطيب في هذه التجربة لا يجد مع نص الكاتبة جبور صعوبة في الوصول إلى الناس لأنه يقدم مقولته ببساطة وصدق ويخاطب فيهم تلقيهم بسلبياتهم وإيجابياتهم، حيث تنتمي أفلامه لـ “سينما الواقع” الذي يشكل منهلاً ثراً للموضوعات التي تتداخل مع أبعاد رمزية تحمل دلالات عميقة منسوجة برؤية فنية جميلة وصادقة، حيث البساطة أسلوباً يعتمده الخطيب في معظم أفلامه، والصراع الذي نراه في أفلامه ليس صراعاً بين الشخصيات، إنما صراع الشخصيات مع الحياة..
رسائل عديدة حملها فيلم “الحكيم” جميعها تؤكد أن مساحة الحلم أوسع من أي مصالح قد يرتجيها البعض، وهذا البيت لكل أبنائه بكل أطيافهم وتوجهاتهم، فهم وحدهم المعنيون به وببلسمة جراحه، ولا يوجد فيه من يقبل ألا تكون سورية الجميلة الوطن الواحد لكل أبنائها، هذا الشعب الشهيد الذي سطر تاريخاً بالإرادة والحياة.