قراءة في مجموعة “زهرة الريح وتبقى الجبال” لـ بديع صقور
في مجموعته “زهرة الريح وتبقى الجبال” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، استطاع الشاعر بديع صقور أن يمتلك أدوات شعرية ترسم الصورة التي تخلق الرؤية، إضافة إلى ما حملته لغته الشعرية الرائعة من شحنات متتالية، وطاقات قادرة على التحدي، ليقول الشاعر في نص بعنوان “قطفة من مطر”: على كف التراب نسيها القمر، تحت عتبة شفق عابر سقطت مضرجة بالدموع، ومن بين أحضان المطر شقت صدر الأرض وانفلت صوتها، الحياة لاشيء.. الحياة لا أحد.. الحياة يتيمة على باب ريح.. ويحه ناي من قصب”.
هنا عمد الشاعر لإبراز النص من خلال خصوصية الأداء الفني المميز وضروراته المتقنة للقارئ، فالشاعر يمارس لذة الانجذاب والبحث عن المعاني المخبأة في ثنايا القوافي. وفي نص بعنوان “درج النهار” يقول: أنا عود القصب.. النحيل كدوري الشقاء.. كما كانت أمي تسميني وتشبهني ياحسرتي يا ابتي.. لو بقي الطير ينقر في جسدك النحيل هذا شهراً كاملاً لما استطاع الحصول على “فرمة” لحم واحدة منه ومع ذلك بدأت أصعد درج العمر المتصدع هذا درجة ..درجة”.
هنا جاء النص بشكل انسيابي بعيداً عن الحشو والتشتت والضعف المجازي، فالقصيدة مستقاة من الحياة بنبض شهي ومثير فمزج الشاعر بين الواقعية والخيال لتراقص موسيقاه بعيداً عن الرتابة مع إضفاء فيضاً من الحيوية بكل حرف، وهنا نجد تعبيره المباشر لما تعانيه الذات.
وفي نص بعنوان “بلح الشمس” يقول الشاعر: “بلح الشمس..جلباب زنوبيا.. رائحة عطر معلق على سعف النخيل وحمحمة خيول.. قوس نصر، والساكنون هجر والخيام والرمال ابتعدوا… رسمت الريح دروبهم… وأناخوا قوافلهم.. والواحات بعيدة.. ابتعدت جنة الفرات.. لا قمح في العنابر، ولا صبايا يرقصن تحت قبور الآلهة”.
الشاعر يعتمد الكتابة بروح محلقة شكلاً ومضموناً لتأتي القصيدة وكأنها لوحات متعددة الألوان بمفردات متنوعة وعالماً خاصاً، بلغة مثقلة قوية وألفاظ جزلة يكتحل فيها الشوق بالجرح والخوف بالوله والوحدة بالأنين من بعيد حالة من المشاعر تعبيرية الوجد والنشيج والوجع ورومانسية محلقة تشف عن قلب عطوف ملىء بالغربة والحنين والهموم والشاعر استطاع أن يحدد رؤيته وألحقها بالعالم الحسي الفعال على نحو جعل لها حركة دائرية بنظرة أكثر شمولية.
وفي نص بعنوان “بعثرة” يقول الشاعر: “تبعثرنا الحرب.. يلص القتلة بيض الضحكات من أعشاش صدورنا… في خريف الحرب تتساقط أوراق العمر..وفي الصدور تكبو خيول الفرح”.
الشاعر يطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرقه ويغوص عميقاً في فكره فكل ما هو حوله من الوجود والغياب والموت والمنفى وتساؤل الروح الحائرة، فجاء النص بأسلوب اعتمد التكثيف والاختزال، واقتناص اللحظة الزمنية بلغة شاعرية أنيقة مزج فيها الواقع وتأملات الكون ما أعطى النص ذائقة جمالية وتقنية شعرية برؤية فلسفية تصويرية.
تنوعت قصائد المجموعة الشعرية “زهرة الريح وتبقى الجبال” ما بين الوجداني والإنساني والوطني والغزلي، ونجد أن هناك نزعة فلسفية توازي ذلك الحس الصوفي الذي يتوافر داخل التصوف التي تعتمد بساطة العبارة والتماس الشعر في المعنى الكلي المنبثق من حالة تأكيد أو إعلائها بالصور البلاغية وتداخل المشاعر في المعاني، وبمهارة التمكن من الإبحار على أبعاد الزمن .
ينقلنا الشاعر إلى زمن الحلم وبوعي منه، وفي زمنه هناك يمزج ما هو حسي بما هو وراء الحس، وبقدرته الخلاقة على صناعة وتشكيل هياكل المحتوى ومضامينها على أبعاد هذا التنوع الصوتي لتتالى صور عاصفة تطاول المستحيل، ونجد الموسيقى المستمدة من وقع كلمات ذات جرس واحد هي ليست محضاً حيلاً فنية، بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون.
المجموعة تضم عناوين متعددة “زهرة الريح وتبقى الجبال.. شتاء الريح.. فوق أجنحة الغيم.. تحت أشجار المطر.. بعيداً عن الرصاص.. مرافىء العشق.. خريف المصاطب”، وعناوين أخرى تتوهج فيها الحالة الإبداعية.
هويدا محمد مصطفى