الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

جمعهم الإبداع وتراتيل الرحيل

سلوى عباس   

غريب هذا الفقد الذي يجمعه شهر آب من الأدباء والمبدعين السوريين، فيبدو الأمر وكأنهم متفقون على حزم أمتعتهم والرحيل، كما جمعهم الإبداع والبوح الإنساني، فمنذ أيام مرت الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الشاعر علي الجندي الذي يقول عن تجربته الشعرية: “تعود تجربتي إلى خمسينيات القرن الماضي وكانت البدايات صعبة وشبه ميؤوسة، في كل خطوة أخطوها كان الخوف هو المسيطر، وبعناد شديد تخطيت المرحلة الأولى وأنا واثق بأنني أكتب شيئاً مختلفاً وجديداً، وكنت أفرح عند كل عمل جديد، فمنذ ديواني الأول “الراية المنكّسة” حتى آخر أعمالي كنت واحداً من الأوائل وأنا مرتاح لكلِّ ما أعطيت”.
وبالأمس صادفت ذكرى رحيل الأديبة اعتدال رافع التي كانت تحب أن تعيش زمناً تكون فيه كالفراشة أو كالعصفور فتقول: أنا مثل فراشة فرجينيا وولف محجوزة في بيت زجاجي أضرب الزجاج بأجنحتي حتى أحدث فيه شرخاً لكنني بالنهاية أسقط صريعة وأعلن هزيمتي أنني لم أستطع أن أفعل شيئاً، ولم أستطع أن أفتح نافذة يدخل منها هواء نظيفاً ونقياً، فربما أكون مثالية جداً، وربما متمردة كثيراً، ورغم سني الآن لازلت أكتب بنفس النبض والقلق الذي كنت أكتب بهما، وربما السبب أنه لم يتحقق شيء من أحلامي”.
غداً الجمعة تحل الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الأديبة سلمى الحفار الكزبري التي تقف في طليعة الأديبات السوريات على مدى القرن العشرين بما قدمته من تنوع في النتاج الإبداعي وبلغات مختلفة طوال نصف قرن، إذ تعتبر الكتابة تجربة تمنحها الكثير من الغبطة والسرور، لكنها بالمقابل ترهقها بسبب انسجامها مع شخصياتها وتغلغلها في أعماقها، والحديث عنها بوصفها مثقفة عاصرت أهم أحداث العرب في العصر الحديث، وحاولت بناء علاقة تفاعلية وتكاملية قائمة على الندية والأثر المتبادل بين ثقافتي الشرق والغرب.
وفي الخامس عشر من هذا الشهر غادر الفنان محمد الوهيبي عالمه التشكيلي حيث كان يرى اللوحة مساحة بوح شخصية للفنان، هي لعبة طفلية تنمو وتأخذ أشكالاً أخرى كأي لعبة من لعب الأفكار، ويضيف: “بقدر ما أحافظ على هذه اللعبة وتجديدها بقدر ما تعطيني الخيال والخيار، هي بث طاقة الذات لتحديد شكل المنجز سواء كانت صورة أو قصيدة أو مقالة”.. هكذا عاش الفنان الوهيبي الحياة.. عاشها بعفوية وحب وغادرها بذات العفوية والحب الذي نقرأه عبر الحزن الكبير الذي تركه فراقه في روح كل من عرفه.
وفي يومي 17 و19 من الشهر الحالي غادرنا الفنانان أنطوانيت نجيب وبسام لطفي، وهما عملاقان من زمن الدهشة والحلم، تنضح ملامحهما بشفافيّة الروح والإحساس الجميل الذي كنّا نعيشه مع إبداعهما، لملم هذان الفنانان آخر عبقهما ومضيا إلىى رفاق سبقوهما تاركين لنا تاريخاً فنياً سيبقى منارة لأجيال قادمة، فالفنانان نجيب ولطفي ينتميان إلى جيل المخضرمين والرواد الذين واكبوا انطلاقة الدراما التلفزيونية منذ بداياتها حتى يومنا هذا.
كذلك في 18 أب رحلت الأديبة أميمة الخش التي تطرح أفكارها بجرأة نقرؤها عبر تعابير وجمل تتضمنها رواياتها، بشكل تحافظ فيه على التوازن والوعي بحيث تخدم الجرأة هذه الطروحات بعيداً عن الابتذال، فكانت تقول: “جرأتي في طرح أفكاري مدروسة ولا أقدمها اعتباطياً، ففي كتابتي أسعى إلى ترسيخ الأخلاق التي كما أرى لا تأتي من قيود المجتمع ولا من تعليم المدارس أو التعاليم الدينية، الأخلاق تأتي من الذات والفضيلة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان”.
أيضاً في 24 من هذا الشهر تحل الذكرى السنوية الأولى لرحيل المايسترو حسام الدين بريمو ذلك الرجل الذي امتطى صهوة اللحن يدافع عبره عن أصالة موسيقا أنتجت عالماً معرفياً وحضارياً، فكان جزءاً من نسيج هذا العالم الذي بذل كلّ جهده ليكون شخصاً فاعلاً فيه، فحمل على عاتقه مشروع الغناء الجماعي في سورية، وكانت آراؤه حول الغناء مثيرة للجدل، إذ كان يفضّل الغناء الجماعي، فأسّس جوقات بأعمار مختلفة أن “الغناء الجماعي يوحّد الأشخاص ويعطي إحساساً بأن الجميع متساوون، فيشكلون فرقة جميلة تقدم الجمال”. واستطاع الراحل عبر كلّ الجوقات التي أسّسها وأدارها ودرّبها أن يحقق أعمالاً موسيقية غنائية تصل بمستواها الفني لمرتبة العالمية نوعاً وموضوعاً، مبيناً أن “ما تحقق اليوم يفوق التوقعات بالقياس للظروف المحيطة ببلدنا والإنسان السوري”.