محمود درويش
أتذكرُ الآن ما قاله رسول حمزاتوف الداغستاني (1923-2003)، في مذكراته التي جالسها سنوات طوالاً من عمره ليكتب حكايته مع الشعر أولاً، والدروب التي اشتقها بقصيده ثانياً، والتاريخ الذي عمل عليه ثالثاً لتصير عتبات البيوت الداغستانية قصوراً في نظر الآخرين، ولتصير وجوه الداغستانيات مرايا للجمال البهّار، ولتصير أحلام أهل داغستان هي أحلام أهل السعادة، وعشاق الحرية، وطلّاب العمران، أتذكرُ الآن ما قاله في مذكراته، بأنه ما أراد أن يكتب سوى ما يعرفه عن بلاده، وأن يكشف عن سلوكية المواطن في بلاده المتعلق بالمكان الداغستاني سواء أكان قرية أم مدينة، جبلاً أم سهلاً، وإذ به يكتب حال بلاده الصغيرة (تسادا) في رائعته (داغستان بلدي)، وأحلام مواطنيه، وبذلك فقد كتب الخلود لنصوصه، مثلما كتب الخلود لشعبه.
أتذكره الآن، وأنا أواقف تاريخ رحيل شاعرنا الفذّ محمود درويش، وأتذكّر ما قاله عن سيرته مع الشعر الذي جال به في جميع أرجاء داغستان حتى وفّاها حقّها، لأنّ ما فعله محمود درويش هو هذا بالضبط، فكان قصيد محمود درويش، من سطره الأول، إلى سطره الأخير، كتابة لسيرة البلاد الفلسطينية مكاناً، لأنّ الحيف طال، أول ما طال، المكان، فقد أراد المحتل الإسرائيلي تغيير هوية المكان وتهويده، ومحو خصوصيته وتشويهها، فكان شعر محمود درويش يحوّم حول المكان قلقاً مثل الطيور التي باغتتها الثعابين في أعشاشها، وكان شعره كتابةً لسيرة أهل فلسطين، منذ نكبة عام 1948، وصولاً لعام 2008، عام رحيله، فكانت الكتابة أشبه بالضوء الذي مرّ بالأذيات السود التي لحقت بالفلسطينيين وأحاطت بهم، وهم في قراهم ومدنهم، وحقولهم ومصانعهم، وأسواقهم ومدارسهم ومشافيهم ومعتقلاتهم ودور عبادتهم.. كيما يكشف هذا الضوء عن فداحة الظلموت والرهبوت اللذين تعرضوا لهما، وكتابته الشعرية أيضاً هي كتابة لأحلام الفلسطينيين الذين يزرعون القمح والبرتقال والزيتون والخروب والزنابق والحبق صباحاً، ويشربون القهوة، وهم يتحاورون، في المساء كيما يُساقطوا تعبهم من مواجهات دامية، مع عدو لعين، أٌقل ما يقال عنها إنها عنصرية.
ومن عجب، وكما حدث لرسول حمزاتوف حين تبع قلبه، فإنّ محمود درويش تبع قلبه أيضاً ليكتب شعره الذي غدا تراتيل في محاريب ثلاثة هي المكان، والأحلام، والجمال؛ والجمال هو بُغية الشعر وعرامته، ولولا جمال شعره لما بدا المكان الفلسطيني جليلاً معافى، ولما تجلّى مناراً بالعشق الذي انشقّت عنه الروح الوطنية لتجلو ما فيه من مجد وسحر وهوية، وكلّها معانٍ عصية على التحييد والمغايرة، ولولا جمال شعره لبدت السجون، والمجازر، والمقابر، والحواجز، والمخاوف، وبرك الدم، وأعمدة الإذلال، وساحات البطش، والبكاء الجهير.. قرىً للموت البطيء، وقرىً للملاومة! ولولا الروح الواثقة التي طار بها شعر محمود درويش إلى كلّ أرجاء الدنيا، وهي تجسّد صلادة الإرادة الفلسطينية لظلّت أحلام الفلسطينيين تمتمات وهمهمات مبهمة، في ليل طويل مدلهم يبحث عن فجره!
ومن عجب، أيضاً، أنّ محمود درويش، وعبر قصيده لم يكتب صورة المكان وحده، رغم الخوف الشديد عليه، وإنما كتب صورة الفلسطيني العاشق للمكان الواقف قبالته كما لو أنه يصلي، وكتب صورة الفلسطيني الذي ورّث من خلِفه الأحلام المشدودة إلى المكان، مثلما هي جذور الأشجار مشدودة إلى تربتها، فلا شيء أنبته المكان الفلسطيني أو أثثه إلا وله مرآة صافية في قصيد محمود درويش الذي كتب قصيدته بأصابعه العشرة، وبقلبه، وبروحه الهاتفة المنادية: بلادي الجليلة.. بلادي الجليلة، وقد رآها بعين الصقر كي لا يغيب منها تفصيل هنا أو هناك.
الآن، وبعد رحيله الذي ثلم أرواحنا، نجالس قصيد محمود درويش (1941-2008) الذي كتبه وهو على مقاعد المدرسة، فنراه بهرة جمال لذلك الطفل الذي حفظ صورة أهله، وبيته، وعرف حلمه، وكتب ما سيخلده، وهو كبير، فكان طروس حكمة، مثل جملته الخالدة: على هذه الأرض ما يستحق الحياة، لأنّ سيدة الأرض هي فلسطين، أرض الله الصغيرة.
محمود درويش الذي هُجّر من قريته (البروة) حافياً عارياً عاد إلى الوطن وعمره سبع سنوات ليقرأ في كتاب القرية التاريخ والجغرافية وأحلام الناس من أجل عودة الحياة مرّة أخرى من دون خوف وبارود ومعتقلات.
محمود درويش، الذي افتك نفسه من خوف عميم، عاد إلى الوطن، من منافيه المتعددة، ليقول لمن فقد المنطق، والحياء، والعاطفة: أحنّ لخبز أمي، وقهوة أمي! لأن الخبز ليس سوى المكان، وليست القهوة سوى الأحلام، وليست الأم سوى الوطن!
أهل داغستان، يقولون، ومنذ رحل شاعرهم رسول حمزاتوف، إنه عائد إلينا، وعودته تشبه عودة الكراكي، ونحن أهل فلسطين، ومنذ أن رحل شاعرنا محمود درويش، نقول إنه عائد إلينا عودةً تشبه عودة الكراكي بدفئها، ومعناها، وجمالها العزيز!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com