اللغة الأوغاريتية تمثل الطفولة المبكرة للغة العربية
فيصل خرتش
تقع مدينة أوغاريت قرب خليج ” مينة البيضا” في سورية، شمال اللاذقية على الساحل ودلَت الحفريات على أنَ المنطقة كانت مسكونة في الألف السابع قبل الميلاد، وتعاقبت عليها عدَة شعوب من بلاد الرافدين والأناضول، وفي أواخر الألف الثالث ظهرت مدينة أوغاريت، وكان لها علاقات وثيقة مع جيرانها ومع المملكة الحثية ومع مصر وقبرص والعالم الإيجي، وأصبحت حدودها الشمالية الشرقية من إدلب إلى الروج فجسر الشغور والبدروسية والجبل الأقرع، ووصلت حدودها الجنوبية إلى منابع نهر السن على الساحل، وفي عام 1200 ق. م قدمت شعوب مجهولة إلى المنطقة وأحرقت المدينة وخرَبتها، وقد كشفت الحفريات عن آلاف من القم الفخارية وعن وثائق نقشت على قطع أثرية مختلفة تعود إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر قبل الميلاد، وقد أظهرت هذه المدونات أنَ الفكر والثقافة في أوغاريت كانا في قمة أوجهما، وأنَ أوغاريت كانت البادئة في التاريخ باختراع الأبجدية، (تمَ اكتشاف أوغاريت عام 1928 ).
كان الشرق القديم، قبل أوغاريت، يعرف طريقتين للكتابة، الهيروغليفية في مصر، والمسمارية في بلاد الرافدين وفارس، وقد استخدمت الكتابتان مئات الأشكال التصويرية أو المقطعية، مما جعل مهمَة الكتابة عسيرة، واختصَ بها جماعة سموا ” الكتبة ” حتى جاء الأوغارتيون فاخترعوا الأبجدية التي تقوم على شكل واحد يمثل أحد حروف الهجاء، فاختصروا عدد الإشارات الكتابية إلى تسعة وعشرين حرفاَ (لا يظهر حرف الضاد في اللغة الأوغاريتية).
كانوا يكتبون هذه الأبجدية التي اخترعوها بالخط المسماري، إلى أن جاء الفينيقيون فغيروا هذا الخط إلى الخط المعروف اصطلاحاَ بالخط الأبجدي، وهو ذاته الترتيب الأبجدي للأحرف اليونانية التي انبثقت عنها كلَ أبجديات أوروبا مع بعض الفروق الطفيفة.
ويتطابق البناء اللغوي للغة الأوغاريتية مع اللغة العربية إلى حدَ كبير، مما يشجع على القول: إنَ هذه اللغة تمثل الطفولة المبكرة للغة العربية، وهي تتطابق مع العربية في الجذور اللغوية التي تظهر في ذلك العدد الهائل من الألفاظ المشتركة بين اللغتين، وكذلك في البناء اللغوي الذي أثبتت دراسته بالمقارنة مع اللغات الشرقية الأخرى أنَه واحد.
بينت النصوص التي كتبت قبل دمار مدينة أوغاريت على نوع من اللغة أرقى من تلك التي استعملت خلال القرنين السابقين (1400ـ 1200) ق.م وقد تضمنت:
- اللغة الشعرية: وحافظت هذه اللغة على أبجديتها القديمة، وخاصة الصوائت ونظام الحركات، وتميزت بسمات لغوية، أهمها: إلحاق علامة التثنية والجمع ب “ميم” عوضاَ عن ال” نون” التي تستخدم في العربية، واستعمال ألفاظ مهجورة، وغياب ” ال ” التعريف، أوندرتها، كذلك استخدم الشاعر الأوغاريتي، من ناحية الشكل، الأبيات المتوازية والنقطتين المتعامدتين بكثرة، وهذا يدلَ على أنَ اللغة الشعرية لغة راقية عندهم اعتنى أصحابها كثيراَ بصياغة أسلوبها الأدبي.
- لغة الوثائق والرسائل: وهي لغة راقية قريبة من لغة الأدب، وتظهر في لغة الوثائق الملكية ورسائل الموظفين ذوي المراتب الرفيعة.
إنَ معظم الألواح المكتشفة فيها مكتوبة باللغة الأوغاريتية، وقد عثر على عدد من الألواح الفخارية مكتوبة باللغة الأكادية (اللغة الدولية في الشرق القديم) وقد استعملت في المراسلات الدولية والسياسية والحقوقية، وعثر أيضاً على نصوص مكتوبة باللغات التالية: السومرية، الحورية، القبرصية، الكريتية، الهيروغليفية، الحثية، كما اكتشفت فيها منحوتات مصرية من عصر الإمبراطورية الوسطى، كذلك نقلت إلينا الألواح عدداً كبيراً من الصكوك والعقود والكفالات، واكتشفت لوحة كبيرة تتضمَن أسماء الأسماك والنباتات والطيور التي كانت معروفة في المنطقة، وتضمنت الأحجار والأوزان والأوعية والمنسوجات المستعملة في أوغاريت، بالإضافة إلى ألواح تتضمن معاجم لكلمات أوغاريتية مع ما يقابلها في اللغة السومرية والبابلية والحورية وأهم ما تحتويه هذه الألواح كان مجموعة من النصوص التي تضمَ ملاحم وأساطير أوغاريت، وهي قصائد جميلة مكتوبة باللغة الأوغاريتية، وقد صنفت هذه الأساطير تحت العناوين التالية: بعل ويم، قصر بعل، بعل وموت، كرت ملك صيدون، أقهت بن دانيال، شاشاروشاليم، نيكالوالكوشارات، وبعض النصوص المتطرفة.
وقد روت هذه القصائد ملاحم وأساطير مرتبطة بالمعتقدات السائدة عندهم على شكل مغامرات قام بها أبطال أوغاريت، وهي على درجة عالية من النضج الثقافي والفكري، وقد كتبها تلميذ كبير الكهنة بأمر من “نقمد ” ملك أوغاريت الذي كان يهتمَ بالثقافة والأدب، وقد دوَن معظم هذا التراث في عهده، وكانت له علاقات ودَية مع مصر، حتى إنه تزوَج من أميرة مصرية، ربما كانت ابنة الفرعون أمينوفس الرابع والملكة نفر تيتي.
ترجمت هذه النصوص والأساطير إلى معظم لغات العالم، وتدرس اللغة الأوغاريتية في أربعين جامعة، وسجل الكومبيوتر منذ عام 1978 أربعين ألف مجلَد وكتاب ودراسة ومقالة عن أوغاريت في كلَ لغات العالم.