النيجر ترسم مرحلة جديدة في دحر الغرب من إفريقيا
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
بالتزامن مع احتفال النيجر بعيد استقلاله من الاستعمار الغربي القديم الذي ظلّ يواصل استغلاله لخيراتها عقوداً، يعلن الآن التحرّر من زمن العبودية والتبعية بشكلٍ تام، سواءً للغرب أو حتى لأي مؤسسة إفريقية قد ترتهن له، والإطاحة بكل القوى المحلية التي سعت لتكريس الوجود العسكري الفرنسي غير الشرعي في البلاد، وها هو الشارع النيجري أيضاً يطالب عبر مظاهرات عارمة بالمساعدة الروسية لبلاده لكي تكمل درب تحررها من عباءة الغرب، ويؤيد الانقلاب مع جيش بلادهم دون وصفه بأنه “عمل غير دستوري”، كما يجهد الغرب و “إيكواس” على وصفه.
في هذا الوقت العصيب تثور نظريات وتساؤلات وتوجهات عدّة بعضها رجح تدخّل السنغال عسكرياً، والبعض رجح تدخّل “إيكواس” عبر قوتها العسكرية التي تتضمن عدة آلاف من الجنود، بالتوازي مع إطلاق فرنسا والدول الغربية التهديدات بالتدخّل المباشر لإعادة النظام السابق في النيجر في معركة إستراتيجية باتت ليست فقط مجرّد معركة سيطرة على الثروات الإفريقية ونهبها، بل هي أيضاً معركة وجود عالمي في مناطق النفوذ الأهم في العالم، والتي باتت شعوبها تنتقل تدريجياً نحو الاستقلال والتوجّه للعمل مع محور الشرق ومع بعضها البعض.
دول إفريقيا في الماضي لم تكن تملك العديد من الخيارات، وخاصةً أنها تعتمد على السلاح الفرنسي والغربي لتسليح جيوشها وضبط معادلاتها الأمنية وفرنسا بالمقابل استغلّت تلك الورقة أبشع استغلال لتكون فيما مضى القطب الأوحد في القارة، أما الآن وبعد دخول روسيا في المعادلة الأمنية والعسكرية ومحاربة الإرهاب، فقد باتت دول إفريقيا تستند بقوة على الوجود الروسي لتقوية ودعم خياراتها ضدّ فرنسا وقوى الغرب المعتمدة على أنظمة سياسية هشّة كرّست وجودها وإرهاب زرعته تبريراً لمؤامراتها الرامية إلى خلق صراع تديره وفقاً لمصالحها وتمديداً لبقائها الاستعماري في إفريقيا، مدعيةً رغبتها في تحقيق التنمية في تلك الدول، والتي لم تتحقق حتى تاريخه في ظلّ الانتشار الكبير للفقر والمجاعات والحروب في سائر تلك الدول.
لقد بدأ الغرب يخشى ما يشبه “مفعول الدومينو” بعد إخراج دول الساحل الإفريقي وإفريقيا الوسطى لفرنسا من أراضيها، والآن بعد هذا الانقلاب من المتوقع أن تخرج فرنسا قواتها من النيجر، وهذه التحّولات ستؤثر على مؤشرات ميزان التجارة الخارجية الفرنسية الآخذة بالتقلّص تدريجياً، فعلى سبيل المثال تراجعت تلك التجارة بنسبة 60% بعد انتهاء حقبة الاستعمار القديم، وخلال آخر 10 سنوات انخفضت إلى 5%. كما تخلّت ثمان دول إفريقية عن عملة الفرنك الإفريقي الذي كرست فرنسا التعامل به وربطته بمصرفها المركزي. أما على الصعيد التجاري فباتت الصين هي الشريك التجاري الأول للقارة بحجم تبادل وصل إلى 281 مليار دولار العام الماضي، مقابل 143 مليار لأمريكا وفرنسا مجتمعتان، يضاف إلى ذلك بدء دخول الشركات والاستثمارات الروسية وحتى الإفريقية الإفريقية، حيث باتت تلك الشعوب تبني نفسها بنفسها فوصلت نسبة التبادل التجاري البيني بين دول إفريقيا إلى 15% من نسبة التبادلات، والتعاون الاستثماري البيني إلى 11% من الاستثمارات الإجمالية، والأهم من ذلك تمييز شعوب إفريقيا مدى الفرق في التعامل لجهة التساوي في العلاقات والعودة بالفائدة على الطرفين خلال التعامل مع قوى الشرق التي باتت أكثر قبولاً لمعظم شعوب إفريقيا. وحتى على الصعيد الثقافي اعترفت فرنسا ذاتها وعلى لسان رئيسها إيمانويل ماكرون بانخفاض مستوى انتشار اللغة الفرنسية في القارة السمراء مؤخراً وتحولها.
تصرّ “إيكواس” على فرض عقوبات على النيجر ومنفذي الإنقلاب بذريعة أن قوانين المنظمة تُدين أي تغيير غير دستوري لسلطة الدول المنضوية ضمن هذا الاتحاد، لكن بالمقابل فإن الدول المجاورة للنيجر ترفض التدخّل العسكري لإعادة نظام الحكم إلى السلطة، وعلى رأسها مالي وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري التي شهدت أيضاً انقلابات متعدّدة للسلطة التي كانت مرتهنةً لفرنسا وقوى الغرب، مؤكدةً أن أي تدخّل في النيجر سيعتبر بمثابة تدّخل في شؤون بلدانها، وعموماً فإن الخطاب الموحّد في منطقة الساحل الإفريقي سيمنع بشدّة التدخل العسكري في النيجر سواء من فرنسا أو “إيكواس”، أما الجزائر والتي تعتبر بوابة الغرب على إفريقيا فلن تسمح وفقاً لموقفها الثابت الذي يحظر أي تدخّل بشؤون الدول الإفريقية، بحدوث أي تدخل غربي أو دولي عبر أراضيها إلى النيجر، وهذا موقف معظم دول جوار النيجر التي ذاقت مرارة تجربة ما أقترفه الغرب عند تدخلهم في ليبيا، والذي أدّى لتفشّي الإرهاب والتنظيمات الإرهابية التكفيرية في معظم مناطق القارة وخاصة في دول الساحل. وعلى العموم فإن التواصل الجغرافي مفقود لأي عملية عسكرية فرنسية أو غربية في النيجر، وأي محاولة لخلط الأوراق لتمريره سيقابلها فلتان وانهيار أمني لكامل المنطقة، كما أنه سيكون ذا كلفة عالية جداً لكل من يتدخّل به نظراً لشراسة المعركة وقوتها وحاجتها للقوات والمعدات، وليس من المعقول أن تترك دول أوروبا الجبهة الأوكرانية دون سلاح وترسل أسلحتها ومعداتها التي نفذ بعضها فعلياً منذ أشهر، إلى قارة أخرى في هذا التوقيت المرّ بما للكلمة من معنى بالنسبة إليها.
إن نجاح ما يحدث في النيجر وعدم عودة الرئيس المخلوع عبد الرحمن بازوم إلى السلطة، يعني أننا سنكون أمام إنقلاب طوعي، ورسم لمرحلة جديدة من دحر الغرب ونظام القواعد العالمي البائد، وتدعيم لأساسات العالم متعدّد الأقطاب ومؤسساته الاقتصادية وعلى رأسها “بريكس”، ونجاح للمقاربة الروسية والصينية التي بدأت تتمدد بشكل كبير خلال العامين الماضيين ضمن إفريقيا، نظراً لثوابتها القائمة على بناء علاقات اقتصادية مع الدول دون أي تدخّل في شؤونها الداخلية.
بالنهاية إن الاحتمال الأكبر سيكون في انطفاء أصوات التهديد والوعيد والتلويح بالحرب من الغرب بعد فقد الأمل، كما ستتم التسوية بين النيجر و”إيكواس” ودول الجوار مهما شدّدت من عقوباتها وحصاراتها كما حدث سابقاً في دول الساحل وسيحدث لاحقاً في بقية دول القارة السمراء.