صيدلية الحطب وتراب أغلى من الذهب
غالية خوجة
تستعيد ساحة الحطب أنفاسها مع إعادة التأهيل التي تتمّ ببطء، ولأهالي حلب أن يتذكروا المعارض التشكيلية التي أقامها فنانون من مختلف الأجيال قادمون من دمشق بمشاركة بعض الفنانين الحلبية، إضافة لبعض الاحتفالات مثل أعياد الميلاد ورأس السنة، لكنها، الآن، تتأمل العابرين والأطفال الذين يلعبون بين الحين والآخر، وتعود لصمتها لتتذكّر تفرعاتها وأزقتها وجاداتها التي تنطلق منها متوزعة إلى سوق الصاغة، ومحلات بيع السمك، ومحل فول “أبو عبدو” الشهير، ومنافسه “الحج رضا”، وتبتسم لمئذنة جامع “شرف” التي رمّمتْ، وتنتظر أن تكتمل الكنيسة المجاورة، وتتابع حياة سوق الجديدة للأثاث المنزلي المستعمل، وتستذكر بحسرة مكتبات باب النصر.
ولمن يزور هذه الساحة أن يرى الناس تعبر حاملة همومها وتحاول أن تطيّرها مثل حمامات السلام، لتواصل أحلامها، فهذه أمّ متوسطة العمر تحمل رضيعها وتناغيه مبتسمة، وتلك أمّ وابنتها تمرّان وهما متفائلتان، ربما لأنهما خرجتا من كنيسة “مار الياس” القريبة، وهما تثقان بأن الله مجيب الدعوات.
بينما في الجهة القريبة من زاوية محلات صاغة الذهب التي كانت هنا، ألمح رجلاً بحواجب ابيضّت من الزمان والصبر والحكمة، لكنه بإرادة متفائلة يقترب لسقاية الأشجار الحديثة للحديقة المثلثة الصغيرة التي تتوسط ساحة الحطب، وعندما يكتشف أن الماء لا يجري في الأنبوب المطاطي -“الخرطوم” باللهجة الحلبية- يدرك أن الماء منقطع، فيبتسم ويرجع إلى محله ليحضر ماء خزّنه بعلبة توتياء ويسقي التراب الأغلى من التبر والذهب.
لفتني هذا المشهد الذي يبدو يومياً بالنسبة لهذا الرجل، فاستوقفته، وعرّفنا على نفسه الصيدلي كريكور آرويان مواليد 1946، وأشار إلى محله المرمم حديثاً، والذي يمتد منه الأنبوب المطاطي خارجاً من بابه الحديدي الموارب، وتابع بحسرة نصفها واضح على ملامحه، ونصفها عرّش في أعماقه: “كانت هنا صيدلية الحطب التي افتتحتها منذ عام 1975 بعد تخرجي وقضائي سنتين بممارسة المهنة في الريف، وتحديداً، في جسر الشغور، وكان لأبي محل سجاد في الخندق افتتحه عام 1943، لكنه انتقل إلى التلل بعد مشروع باب الفرج عام 1980، وورثته عنه وأعمل به حالياً ريثما تستعيد صيدليتي والمكان وجودها الجديد بعد الحرب الإرهابية والزلزال”.
لكن، ماذا تقول عن الحاضر وللناس؟ أجابني: أقول للجميع أريدكم أن تظلوا في البلد، أن تبنوا البلد، وتابع بلهجته الحلبية الأرمنية المحببة: “ما في أحلى من هالبلد”.