“اتفاق الحبوب” المعلق أمام امتحان جديد للدبلوماسية
البعث الأسبوعية- قسم الدراسات
كل المعطيات تشير إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لا يريدان حلاً للمشكلة الرئيسية التي تمنع عودة روسيا إلى صفقة الحبوب، وحتى الآن لا يرغب المسؤولين، المنقادين لرغبتهم في إلحاق أكبر الأضرار الاقتصادية الممكنة بموسكو، في تقديم تنازلات، وهو الأمر الذي خلق نوعاً من عدم الثقة بين موسكو وواشنطن وبروكسل.
أزمة الثقة الروسية نابعة من علمها أن الولايات المتحدة وبروكسل تبحثان عن طرق برية عبر بولندا أو رومانيا كبديل لمسار البحر الأسود، وهذا يحرم روسيا من أية مكاسب اقتصادية، أي أن التفكير الغربي يذهب إلى أبعد من مجرد حل لضمان إمدادات الغذاء للعالم، إذ يبدو أن هذا التفكير لا يخلو من حسابات سياسية، وصراع النفوذ من الشرق الأوسط وإفريقيا وصولاً إلى شرق أوروبا.
حتى أردوغان نفسه يريد الاستفادة القصوى من الحوار مع الجميع، لأن انسحاب روسيا من صفقة الحبوب مشكلة كبيرة لتركيا، فهو يؤثر بشكل جدي في اقتصاد البلاد الضعيف، ولهذا يحاول أردوغان البحث عن المذنبين، لأنه يدرك أهمية طريق البحر الأسود، باعتباره شرياناً تجارياً رئيسياً.
يقول الباحث في مركز الدراسات العربية والإسلامية بمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، غريغوري لوكيانوف: “لتركيا مصلحة على المستوى السياسي، والأهم من ذلك، الاقتصادي والأمني، في تنفيذ صفقة الحبوب التي جعلت من الممكن إقامة نظام أمني معين في البحر الأسود وفي منطقة المضائق، كما قدمت ضمانات معينة لتركيا. أنقرة تريد الحفاظ على دخلها ومكانتها الحصرية في السوق وضمانات أمنية، وكذلك أدوات التأثير في المؤسسات الدولية والدول الفردية من خلال موارد صفقة الحبوب. لذلك، فإن تركيا مستعدة لتحمل مخاطر معينة، بل ومستعدة للّعب بنشاط في هذا المجال من أجل استعادة الصفقة أو إبرام صفقة جديدة”.
من هذا المنعطف، تتجه الأنظار إلى الزيارة التي سيجريها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، حيث تسود تكهنات بشأن ما إذا كان أردوغان قادراً على تحقيق أي اختراق، خاصةً أن روسيا تشترط تلبية كل شروطها قبل أن تجدد اتفاقية الحبوب وتحديداً وفاء الغرب بجميع الالتزامات تجاه روسيا المدرجة في الاتفاق.
لكن ما دام الغرب يتهرب من التزاماته، فهذا يعني أن هناك صعوبات ستواجه أردوغان في إعادة إحياء اتفاقية الحبوب، لأن روسيا مصممة أكثر من أي وقت مضى على تلبية مطالبها، خاصة فيما يتعلق بالإعفاءات من العقوبات الغربية، كما أن مسار العلاقات التركية-الروسية، بعد زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي إلى إسطنبول، يشهد فتوراً، ناهيك عن التوجه الغربي لتهدئة التوترات مع أنقرة، والذي انعكس أيضاً إلى نوع من الفتور على صعيد العلاقة بين روسيا وتركيا.
لقد وقّعت روسيا وأوكرانيا، في 22 تموز 2022، على اتفاقية في إسطنبول بوساطة الأمم المتحدة وتركيا، تسمح بموجبها لكييف بإعادة فتح ثلاثة من موانئها (أوديسا، تشورنامورسك، يوجني) على البحر الأسود لتصدير الحبوب، ثم جُدّدت الاتفاقية في 18 تشرين الثاني أربعة أشهر. ومع انتهاء سريان تمديدها الأول، أكّدت تركيا وروسيا وأوكرانيا تمديد اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية، وبينما أعلنت كييف أنه جرى تمديدها 120 يوماً، قالت موسكو إن فترة التمديد 60 يوماً فقط، حيث أعلن الكرملين أن روسيا قرّرت تمديد اتفاق الحبوب عبر البحر الأسود 60 يوماً مؤكّداً تصريحات سابقة لوزارة الخارجية. وأعلنت الأمم المتحدة أن المناقشات بشأن اتفاق الحبوب عبر البحر الأسود جارية، وكان نائب وزير الخارجية الروسي قد أعلن، بعد مفاوضات مع الأمم المتحدة في جنيف، أن بلاده تؤيّد تمديد اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية 60 يوماً فقط، بعدما كان يُمدَّد تطبيق النص كل مرة 120 يوماً.
وقاد الاتفاق إلى تحرير حركة المنتجات الزراعية الأوكرانية من موانئها الجنوبية، وهنا مكمن الخلاف إذ تريد روسيا إزالة العقبات أمام صادراتها الزراعية، وذكرت الخارجية الروسية أن الجزء الأوكراني من اتفاقية تصدير الحبوب فعّال، بينما روسيا ممنوعة من تصدير منتجاتها الزراعية، وأنها لن توافق على تمديد الاتفاقية إذا لم يتم ضمان الجزء المتعلق بصادرات روسيا.
وبالطبع فإن أصابع الاتهام هنا تتجه إلى الولايات المتحدة التي تعرقل هذه الصفقة لأهداف جيوسياسية، لكن لا تدرك واشنطن أن تعليق الاتفاق يشكل خطراً سياسياً على الرئيس جو بايدن، الذي يشرع في حملة إعادة انتخابه، ولا يمكنه تحمل انتعاش التضخم المرتفع الذي نغص حياة المستهلكين الأميركيين خلال ذروته العام الماضي. أي أنها لعبة قد تطيح بمستقبل بايدن- هذا إن كان له مستقبل- فروسيا لا تثق بمزاعم واشنطن حول “تسهيلها” تصدير الحبوب الروسية، والوعود الأمريكية بتسهيل التصدير إن عادت روسيا لاتفاق إسطنبول للحبوب.
وهي، أي روسيا، محقة في هذا الموقف، لأن الولايات المتحدة الأمريكية أخفت الحقائق المتعلقة بمبادرة نقل الحبوب من الموانئ الأوكرانية عبر البحر الأسود. وبحسب نائب متحدثة وزارة الخارجية الروسية، أليكسي زايتسيف، في تصريح صحفي، إن واشنطن والغرب “صامتون لأن الحبوب الأوكرانية – التي هي في الغالب علف – تتجه بشكل أساسي إلى أوروبا”. وأضاف: “ظلوا (الغرب) صامتين بشأن حقيقة أن نظام كييف استخدم الممر الإنساني البحري من أوديسا إلى إسطنبول لشن هجمات إرهابية على سيفاستوبول وجسر القرم والسفن الروسية”. وتابع: “ظلوا صامتين أيضاً بشأن الحظر المنهجي للصادرات الزراعية الروسية من خلال عقوبات أحادية الجانب غير المشروعة”.
إذاً، يبقى القول إن الاتفاق الأهم منذ اشتعال الأزمة في أوكرانيا أمام امتحان جديد للدبلوماسية، والواضح أن روسيا، الطرف الرابع للاتفاق، لا تزال تتمسّك بموقفها الذي يربط استمراره وتمديده بتنفيذ الشقّ المتعلق بتصدير منتجاتها الزراعية أسوة بالحبوب الأوكرانية، وعدم استخدام الممرات الإنسانية لشن هجمات إرهابية عليها من قبل وكيل الناتو في المنطقة.