البريكس والجنوب العالمي.. قمة تاريخية بامتياز
هيفاء علي
ربما يكون افتتاح قمة البريكس الخامسة عشرة في جنوب أفريقيا حدثاً تاريخياً من جوانب عديدة: توسيع الكتلة المؤيدة للتعددية القطبية إلى دول أخرى، وتعزيز الاستقلال في مواجهة الأدوات المالية الغربية، والدور الاستراتيجي الذي تلعبه الأغلبية الساحقة من الكوكب غير الغربية، دون إغفال عرقلة الأجندات التي تضر بالتشغيل السلس لهذه الكتلة.
لا شك أن برنامج العمل سيكون ثقيلاً ومهماً لمستقبل العالم، ولم تعد هناك حاجة إلى إثبات الأهمية التاريخية والإستراتيجية لهذا الحدث، نظراً للتوجهات المتزايدة التي تتبنى ليس فقط من قبل الدول الأعضاء، ولكن أيضاً في إطار الدعم المتزايد للكتلة المؤيدة للتعددية القطبية لحصة البلدان في عالم الجنوب.
تجدر الإشارة إلى أنه بالإضافة إلى ممثلي الدول الخمس الأعضاء، سيكون هناك عشرات من كبار الممثلين من العالم غير الغربي، حيث أعلنت حوالي عشرين دولة عن رغبتها في الانضمام إلى الكتلة، وهو منظور يمكن أن يؤدي رسمياً إلى ولادة مفهوم “البريكس+ “، لكن ما يقلق بشدة أعداء الحدث المذكور، المتمثلين في الأقلية الساحقة من الأنظمة الغربية، هو أنه بالإضافة إلى حقيقة عدم تمكنهم من تخريب جدول أعمال القمة، لا سيما فيما يتعلق بعملية إلغاء الدولرة على المستوى الدولي، والتحول المتزايد إلى ومع العمل النشط الذي تقوم به دول البريكس من أجل الاستقلال عن الأدوات المالية الغربية، فإن العالم غير الغربي لا ينخدع بمقترحات “الحوار” الكاذبة الصادرة عن الغرب، وهو الدور الذي أوكل بشكل خاص إلى النظام السداسي، لكن دون جدوى لمعسكر زعزعة الاستقرار. وبحسب مراقبين، ليس للأنظمة الغربية مكان في قمة البريكس، حتى كمجرد مراقبين، وهكذا وصلت الرسالة.
وبالعودة إلى الجانب الاقتصادي الجغرافي، فمن الواضح أنه في الوقت الذي تجاوزت فيه الدول الأعضاء الخمس في التحالف من حيث إجمالي الناتج المحلي مجتمعة الأعضاء السبعة في نادي الحنين إلى الأحادية القطبية التي تمثلها مجموعة السبع، فإن الهدف اليوم هو التعددية القطبية والتحرر من السطوة الغربية، ومن الواضح أن الاستمرار على هذا الطريق، لأنه إذا كان العالم غير الغربي، بما في ذلك مجموعة البريكس والجنوب العالمي، يمثل معاً الأغلبية الديموغرافية الساحقة في العالم، فإن الاضطرابات الاقتصادية تشكل أيضاً جزءاً من عملية منطقية ومشروعة تماماً.
وللعلم، عندما تتحدث وسائل الإعلام الغربية عن معارضة مفترضة بشكل متزايد من قبل مجموعة البريكس للفضاء الغربي، يجب عليهم قبل كل شيء أن يتذكروا أن الغرب بحكم الأمر الواقع هو الذي أبعد نفسه عن عالم الشراكة الشاملة، وحافظ على موقف عدم التسامح، والغطرسة الشديدة وعقدة التفوق مع كونهم أقلية متطرفة، ليس فقط من الناحية الديموغرافية، بل وأيضاً على نحو متزايد من الناحية الجيوسياسية والجغرافية الاقتصادية.
ومع انطلاق أعمال القمة، فقد كان موضوع طرح عملتها الخاصة ووسائل الدفع البديلة على رأس جدول الأعمال، وحتى وقت قريب، عندما قررت السعودية وروسيا والهند والصين التعامل في النفط باستخدام عملاتها الخاصة، كان يتم تداول ما يقرب من 100٪ من معاملات النفط باستخدام الدولار الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، أكثر من 74٪ من إجمالي التجارة الخارجية تستخدم الدولار الأمريكي. وبالتالي، وبحسب خبراء الاقتصاد، فان التخلي عن الدولار يواجه عقبات كثيرة، وعلى الرغم من هذه العقبات واصلت مجموعة البريكس وغيرها من الاقتصادات الناشئة البحث عن بدائل قابلة للتطبيق بسبب خوفها من عسكرة الدولار الأمريكي.
في السياق، أشارت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفيا في خطاب ألقته في كاليفورنيا في معهد ميلكن في الأول من أيار 2023، إلى أنه على الرغم من عدم وجود بديل قابل للتطبيق بين العملات العالمية لاستبدال الدولار في المستقبل المنظور، فقد كان هناك تخلي تدريجي عن الدولار، مضيفةً أن الدولار الأمريكي انخفض من 70% من الاحتياطيات إلى أقل بقليل من 60%، وبالتالي قد تكون هناك فرصة للتحول إلى استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية عبر الحدود. واعترفت بأن العالم يشهد في الآونة الأخيرة صدمات اقتصادية كبيرة نتيجة لوباء كورونا والحرب الأوكرانية، والزيادة السريعة في أسعار الفائدة بعد سنوات عديدة من السياسة النقدية التيسيرية. فاجأت هذه الأحداث صندوق النقد الدولي وعرضت القطاع المصرفي الأمريكي لأزمة ضخمة أدت منذ ذلك الحين إلى انهيار البنوك الكبرى في الولايات المتحدة. وبطبيعة الحال، فإن مثل هذا الانهيار يؤدي بالفعل إلى تآكل الثقة العالمية في القطاع المصرفي الأميركي، وبالتالي في الدولار الأميركي.
وبحسب خبراء الاقتصاد، فقد بقيت دول البريكس تتصارع مع هذه المعضلة منذ تشكيل المجموعة في أعقاب الأزمة المالية العالمية 2008/2009. وفي قمم البريكس المتتالية، اقترح رؤساء الدول عدة بدائل للاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة البينية بين دول البريكس، لا سيما فيما يتعلق بمخاطر أسعار الصرف بسبب تقلبات أسعار الصرف ونتيجة لجائحة كورونا. وكان البديل هو الدخول في اتفاقيات مبادلة العملات (اتفاق بين بنكين مركزيين لتبادل العملات) ضمن مجموعة البريكس. وباعتبار الصين، أكبر شريك تجاري مع جميع دول البريكس الأخرى، دخلت في اتفاقيات مبادلة مع كل من الأعضاء الآخرين في المجموعة.
أما البديل الثاني هو استخدام العملات الخاصة في التجارة بين دول البريكس، وللقيام بذلك، سيكون لدى دول البريكس سعر صرف ثابت محدد مسبقاً أو اتفاقية مبادلة للتجارة في السلع والخدمات. في السياق، وقعت الصين والبرازيل عام 2013، اتفاقية لاستخدام عملتيهما في التجارة. وفي عام 2015، أبرمت الصين وجنوب أفريقيا اتفاقية مبادلة لتسهيل التجارة بين البلدين. ومنذ الصراع في أوكرانيا وفرض العقوبات على روسيا، وافقت الحكومات الروسية والصينية والهندية على التجارة باستخدام عملاتها الخاصة. كما نفذت روسيا والصين بدائل لنظام المراسلة “سويفت” للمدفوعات الدولية. ولتسهيل الاستثمار في البنية التحتية في دول البريكس والدول الآسيوية، اتخذ بنك التنمية الجديد والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية قراراً باستخدام العملات الوطنية للاستثمار في الدول الأعضاء.
ومع انضمام المزيد من الاقتصادات النامية والناشئة إلى بنك التنمية الجديد لمجموعة البريكس، يمكن تعزيز ترتيب احتياطي الطوارئ، وهو الآلية الثانية التي أنشأتها مجموعة البريكس، باستخدام التزامات احتياطي الذهب وسلة من عملات البريكس. ويمكن للاقتصادات الناشئة أن تفكر، على المدى القصير، في اعتماد استخدام الرنمينبي كعملة احتياطية دولية للمعاملات المالية، ومع ذلك، فإن الصين تشعر بالقلق من خطر وقوع عملة احتياطية دولية أيضاً في فخ عدم الاستقرار والتقلبات. وفي ظل هذا الخطر، تفكر الصين بجدية في التحول إلى استخدام عملات رقمية متعددة، للمعاملات المالية الدولية، وقد بدأت الصين والهند وروسيا بالفعل في تجربة منصات CBDC للبيع بالتجزئة للمعاملات. وبينما يجري تطوير هذا النظام، يمكن لدول البريكس والأسواق النامية والناشئة تعميق التكامل المالي وإدخال أدوات مثل اتفاقيات القروض المضمونة وأنظمة التصنيف الائتماني للتخفيف من مخاطر الائتمان.
بكل الأحوال، من المؤكد أن مجموعة البريكس ودول الجنوب العالمي التي تتمسك برؤية التعددية القطبية ستكون قادرة على فرض الآليات التي تنتظرها غالبية شعوب العالم. وبهذا المعنى، فإن القمة الخامسة عشرة لمجموعة البريكس تعتبر تاريخية بامتياز.