لا بدّ من نصر نهائي كامل.. هل تحوّل الصراع بين الأقطاب إلى حرب وجود؟
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي
يدرك المراقب لما يجري في العالم الآن من صراع دموي على أكثر الجبهات الساخنة، أن هذا الصراع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون صراعاً عادياً تفرضه ظروف مرحلية، فالواقع يؤكّد أن هناك نظاماً غربياً قائماً لا يزال يستميت في الحفاظ على مناطق نفوذه في العالم خشية خسارة هذه المناطق لمصلحة القوى الجديدة الصاعدة كالصين وروسيا، وللإبقاء على هيمنته المطلقة على القرار الدولي حتى يتسنّى له الاستمرار في حكم هذا العالم الذي بدأ بالتغيّر تدريجياً لمصلحة نظام عالمي جديد آخذ بالظهور، ويبدو إلى الآن أنه سوف يفرض نفسه في ظل الضعف الواضح الذي يعانيه “نظام القواعد” الذي استخدمه الغرب الجماعي وسيلة للاستمرار بالتحكم بالقرار العالمي.
ولا يخفى على أحد أن هناك ترابطاً واضحاً بين سعي الغرب لإضعاف روسيا من خلال الحرب في أوكرانيا، ورغبته في تشديد الخناق على الصين وخلق أزمات جديدة على حدودها، وليس فقط عبر قضية تايوان لإضعافها، وهذا التوجّه الواضح يؤكّد أن المعركة التي يخوضها الغرب ضدّ هذين البلدين ليست معركة آنية أو مرحلية، بل هي حرب وجود يجب أن تنتهي بانتصار أحد الطرفين على الآخر انتصاراً كاملاً، حتى لو ظهرت بوادر جنوح غربي نحو التفاوض مع روسيا حالياً على خلفية انسداد المنافذ أمامه في إحداث أي خرق على الجبهة يمكن أن يؤدّي إلى هزيمة الجيش الروسي أو إجباره على التراجع.
هذا الواقع فرض على الغرب الجماعي خياراتٍ مؤلمة ربما كان أوضحها ما تتناقله وسائل الإعلام الغربية يومياً من نعي للهجوم الأوكراني المضاد وفشل الغرب في تحقيق أهدافه من دعم النظام الأوكراني، فضلاً عن الحديث المتزايد في الأوساط السياسية والعسكرية الغربية عن استنفاد دول حلف شمال الأطلسي مخزوناتها من السلاح في دعم الجيش الأوكراني، والأزمات الاقتصادية التي تتعرّض لها على خلفية العقوبات المفروضة على روسيا من جانب واحد وجاءت بنتائج عكسية.
ومن هنا، ووفقاً لهذا الإصرار الغربي الواضح على تدمير روسيا واستنزافها وصولاً إلى هزيمتها استراتيجياً، من الطبيعي أن تطوّر موسكو أهدافها من العملية العسكرية في أوكرانيا لتشمل الوصول إلى نصر كامل على الغرب في هذه المعركة، وهذا بالضبط ما تحدّث عنه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مدفيديف، من أن هزيمة الغرب في أوكرانيا أمر حتمي لا مفرّ منه، مشدّداً على أنه لا يجب أن تتوقّف روسيا حتى تتم الإطاحة بنظام كييف الإرهابي الحالي تماماً.
فهو يدرك جيّداً أن الغرب يصرخ بأعلى صوته بأنه سيدعم بقايا أوكرانيا بالأسلحة والمال طوال المدة التي يتطلبها الأمر، وسيقوم بتدريب الجنود لمصنع تعبئة اللحوم في كييف، وبإعادة أنقاض الاقتصاد المحتضر لنظام بانديرا، وسيبقي على العقوبات المجنونة ضد روسيا، لأنه لا خيار آخر أمامه سوى الانتصار على روسيا بعد أن وضع كل البيض في سلّة هذه الحرب التي جاءت بنتائج كارثية على دوله، وبالتالي الغرب لن يذهب أبداً إلى أبعد من الحدّ الذي سيبدأ بعده في الإضرار بمصالحه، بغض النظر عن مدى ارتفاع صوته في قممه وفي الأمم المتحدة، فهذه الحرب بأيدٍ غريبة عاجلاً أم آجلاً ستصبح مملّة ومكلفة وغير فعّالة، الأمر الذي يجعل الصراع بالفعل صراع وجود، فإما أن ينتصر الغرب وإما أن تنتصر روسيا.
وبما أن جميع المعطيات تؤكّد أن الغرب بدأ فعلياً البحث عن مخرج من المأزق الذي وضع نفسه فيه في هذه الحرب، سيتعيّن على السلطات الغربية بعد مرور بعض الوقت أن تبحث عن مخرج، وخاصة بعد تغيّر حكوماتها، حيث ستتعب نخبها وتتوسّل المفاوضات وتجميد النزاع، وستدفن موتاها وتلعق جراحها، وهذا يقود حتمياً إلى أنه لا ينبغي على روسيا إيقاف الحرب قبل قطع رأس الأفعى وتفكيك الدولة الأوكرانية الحالية الإرهابية في أصلها بالكامل وتدميرها تماماً، “حتى لا يُولد هذا القرف من جديد تحت أي ظرف من الظروف” على حدّ قول مدفيديف، وبالتالي لا خيار آخر، “فإما أن ندمّر نظامهم السياسي المعادي، وإما أن يمزّق الغرب الجماعي روسيا في النهاية إلى أشلاء”.
وأوضح نائب رئيس مجلس الأمن الروسي أن الحل الوحيد هو “التخلص الكامل من الآلة السياسية للدولة المعادية وضمان ولائها المطلق في المستقبل. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا من خلال سيطرة روسيا على كل ما يحدث وسيحدث في أراضي دولة بانديرا السابقة. وسوف نحقق هذا”.
وإذا كان الأمر على هذا المستوى الوجودي بالنسبة إلى روسيا، فإنه لن يكون أقل حدّة بالنسبة إلى الصين التي بدأت تستشعر مخاطر الإبقاء على الهيمنة الغربية على العالم، وخاصة أن الغرب يرفض إلى الآن التعايش مع القوى الجديدة الصاعدة في العالم على أساس المنافسة الشريفة، بل يصرّ على اعتبار روسيا والصين معاً خطراً استراتيجياً عليه، وموضوع إضعاف الصين صار هدفاً معلناً دون مواربة يطلقه الغرب الجماعي في كل المناسبات، على مستوى الحديث عن كبح جماح الصين، بمعنى محاربة الصعود الصيني بكل الوسائل المتاحة، حتى لو اضطرّ هذا الغرب لصناعة أوكرانيا أخرى على حدود الصين لاستنزافها.
هذا الأمر دفع المسؤولين الصينيين مراراً إلى التحذير من مغبّة الاستمرار في هذه السياسة في التعاطي مع الصين، وبالتالي ذهبت بكين إلى العمل على إضعاف المجموعات الاقتصادية الغربية بكل الوسائل الممكنة من خلال تقليص التعامل بالدولار في المعاملات البينية بينها وبين الدول الأخرى، وخاصة على مستوى المجموعات الاقتصادية المنخرطة فيها، وأهمها على الإطلاق مجموعة “بريكس” التي بدأت تتوسّع تدريجياً مقتربة من المجال الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وهذا ما دفع الغرب إلى محاولة عرقلة هذا التوسّع بشتّى الوسائل.
ومن هنا، ذكرت صحيفة “فايننشال تايمز”، أن الصين ستدعو زملاءها في مجموعة “بريكس” خلال القمّة المقبلة في جوهانسبرغ، إلى تحويل المنظمة إلى منافس جيوسياسي كامل لمجموعة السبع.
وقال سياسي صيني فضّل عدم ذكر اسمه للصحيفة: “إذا قمنا بتوسيع دول بريكس لتكون مسؤولة عن حصة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مثل مجموعة السبع، فإن صوتنا المشترك في العالم سيصبح أقوى”.
وذكرت فايننشال تايمز أن رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا دعا قادة ورؤساء حكومات أكثر من 60 دولة إلى القمّة المقرّر عقدها في 22-24 آب، بينما، وفقاً لمسؤولين في جنوب إفريقيا، أعربت 23 دولة عن اهتمامها بالانضمام إلى مجموعة “بريكس”.
ومع ذلك، قالت مصادر مطّلعة على مواقف الصين والهند للصحيفة: إن التوترات تتصاعد بين بكين ونيودلهي بشأن الشكل الذي يجب أن يبدو عليه التوسّع. والخلاف الرئيسي هو ما إذا كان ينبغي أن تكون مجموعة “بريكس” نادياً محايداً للدفاع عن المصالح الاقتصادية للدول النامية أو قوة سياسية يجب أن تعارض الغرب علانية، وهذا طبعاً لا ينسجم مع توجّهات الهند التي تحاول الحفاظ على وضع محايد بين المعسكرات العالمية.
ومجموعة “بريكس” هي منظمة دولية، تضمّ روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، وتشكّل اقتصاداتها 23 بالمئة من حجم الاقتصاد العالمي، و18 بالمئة من حجم التجارة الدولية، وبالتالي فإن انضمام أعضاء جدد لهم وزنهم في التجارة العالمية سيقلّص كثيراً من دور الغرب في العلاقات التجارية على مستوى العالم، وليس بعيداً نشوب حرب تجارية بين دول بريكس ومجموعة السبع على خلفية تحوّل الصراع بين الطرفين إلى صراع وجود.
وبالنتيجة الصراع في العالم الآن يتمحور حول قوى تعمل على صناعة نظام عالمي جديد، وأخرى تحاول الإبقاء على النظام الأحادي السابق، وبما أن الطرفين مصرّان على الوصول إلى أهدافهما كاملة دون نقصان، فإن الأمر سيتوسّع كثيراً وربما يصل الوضع العالمي إلى حالة الانسداد التي تجبر الطرفين في النهاية على الوصول إلى الحرب العسكرية المباشرة، التي ستحدّد بدورها طبيعة النظام العالمي الجديد، وهذا يقتضي طبعاً محاولة كل من المحورين توسيع تحالفاته لتشمل أكبر عدد ممكن من الأعضاء المؤثّرين على الساحة الدولية، وهو بالضبط ما تعمل عليه كلٌّ من روسيا والصين، من خلال صناعة تحالفات جديدة مع الأطراف المهمّشة في العالم التي كانت حتى وقت قريب خاضعة للنفوذ الغربي، ولاسيما الدول الإفريقية التي نشهد فيها حالياً نزعة قويّة للاستقلال عن الغرب والانضمام إلى المعسكر الجديد الصاعد، وخير مثال على ذلك طبعاً ما حدث مؤخراً من انقلابات في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، على الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية بالكامل، فضلاً عن توجّه دول كبرى ذات وزن اقتصادي وبشري هائل نحو إنشاء تحالفات اقتصادية مع كل من روسيا والصين، كالجزائر ومصر، الأمر الذي يشير صراحة إلى تغيّر خريطة التحالفات الاقتصادية في العالم، وهذا بدوره أدّى إلى استماتة واضحة من الغرب الجماعي لإفشال جميع المؤتمرات الاقتصادية التي تربط القارة الإفريقية بكل من الصين وروسيا.
بالمحصلة، كل ما يجري في العالم الآن من صراعات سواء أكانت اقتصادية أم عسكرية، إنما يصبّ في سياق واحد هو تشكّل نظام عالمي جديد بعيداً عن الهيمنة الغربية، وهذا الهدف يغري كثيراً من الدول النامية في دعمه، وخاصة أنه سيحجز لها مكاناً بشكل تلقائي ضمن هذا النظام، ما يعني أن الصراع في العالم قد تحوّل إلى صراع وجود، وأن على المنتصر في هذا الصراع كما قال مدفيديف أن ينهي الطرف الآخر ويمنعه من الصعود مرة أخرى، حتى يتم التخلّص من القرف الذي يشكّله النظام الغربي السابق.