الغناء للحرية!
حسن حميد
بلى، من الطبيعي جداً، أن يغيّب الحقدُ العلنيّ والمضمرُ الكثيرَ من الأدباء والفنانين الذين قالوا: لا للظلم الذي تتبناه، وتسهر على إدامته حكومات، ودول، ومؤسّسات استخباراتية، ومنظمات عنصرية، هدفها الأول، والأبدي، هو تغييب الحقيقة والواقع، ومحاصرة الطبيعي والحقاني وطيّه، سواء أكان ذلك يخصّ الشعوب أم يخصّ القضايا.
كلّ الأدباء والفنانين الذين قالوا: لا للظلم، ولا للعنصرية، ولا للتوحش، ولا للاستعباد، طالتهم يدُ الأذى والاكتواء بنار الأحقاد والظلموت الأسود البشع، وهم ليسوا قلة، في التاريخ، إنهم نباتات بريّة، كتاباتُهم وآراؤهم كانت مشبعة بضوء الشمس، ونور القمر، وما زالت تشعّ، وتدرّس، وتعلّم، وترسم الدروب، وتمنح القلوب جسارة العناد البشري الجميل.
من هؤلاء، شكسبير، وبوشكين، وغوغول، ودوستويفسكي، ولوركا، وألبيرتي، وجان بوليه، وموباسان، وكازانتزاكي، وسرفانتس، وهمنغواي، وجان جينيه، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت، وبيكاسو، وغوغان.. إلخ، ولأنّ هؤلاء جميعاً هم من أهل المعروفية والشهرة، فإنني، هنا، أتلبّث عند شاعر أمريكي جهر بمعاداته للظلم، والسياسيات الظلامية للحكومات الأمريكية التي عرفها القرن العشرين، بعدما تنكّرت الثقافة السياسية في أمريكا لمبادئ ويسلون عام 1914، والتي كان على رأسها احترام البلدان وسيادتها، واحترام حقوق الشعوب وتراثها، هذا الشاعر هو (جاك هيرشمان) المولود سنة 1933، الذي عرف بميوله اليسارية، ومساندته لحركات التحرّر العالمية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وداخل الولايات المتحدة الأمريكية، ومناصرته للبلاد الفلسطينية العزيزة التي قال: إنها تواجه قبحاً استعمارياً كامل الحقد، كامل العنصرية، وإنّ الولايات المتحدة هي الجهة الأولى الداعمة لهذا الظلم الذي وقع على الجغرافية والتاريخ والشعب الفلسطيني الذي بنى حضارة عمرها من عمر مدينة أريحا، واستصلح الأراضي، وروّض الأنهار والبحار والبحيرات، وأدخل المؤانسة والطمأنينة إلى الغابات بعد أن كانت معازل للتوحّش والدموية والإخافة.
هيرشمان، عُرف بثوريته، وصراحته، وغضبه العارم في قصائده، ومواقفه طوال حياته، لذلك لوحق، وأغلقت عليه الجهات، ونبذته المنابر وصدّت عنه، وحيّدته، فذهب إلى المقاهي والأرصفة والحدائق والبيوت ليقرأ شعره، من دون أن يطال الإحباط روحه الثورية، لا بل خسر كلّ شيء في مقابل ثباته على مواقفه، وروح الثورة في شعره، والكشف عن أسرار الظلم، والعدوانية، والثقافات التي تغذّيها، لقد خسر بيته في مدينة نيويورك التي ولد فيها، وخسر أصدقاءه، والصحف والمجلات والمنابر التي امتدحت موهبته وقدرته الشعرية في بداياته الأولى، وخسر وظيفته الجامعية أيضاً، ومضى ليعيش أواخر حياته في غرفة وحيدة تقع فوق مقهى في مدينة سان فرانسيسكو، ولم يكن معه أحد سوى مواقفه، وقصيدته، وأمله بأن تشرق شمس الحرية لتشمل أهل الحق، والشعوب التي تناضل من أجل افتكاك نفسها من شرنقة الظلم الغربي الذي غدا قبيحاً إلى حدٍّ لا يُطاق.
هيرشمان، حصل على تعليم كافٍ في مدينة نيويورك، فقد حاز على شهادة الدكتوراه عام 1961 من جامعة أنديانا، وقد درّس فيها، ثمّ طرد منها لأنه حرّض طلبة الجامعة على عدم الانخراط في التجنيد العسكري في الحرب على فيتنام، وزاد الأمر سوءاً عندما أعلن صراحةً: أنّ (إسرائيل) هي خرزة في قلادة الاستعمار الأسود الذي عرفته الشعوب، وأنّ الفلسطينيين الذين انتصروا على الفرنجة، سوف ينتصرون على الإسرائيليين ويطردونهم مثلما طردوا الفرنجة، وأنّ موانئ البحر الأبيض المتوسط في انتظار خروجهم الحتمي لأنّ الفلسطينيين هم أهل أرض، وأهل الكتاب، وأهل العمران.
هيرشمان كان عصامياً في بناء نفسه، فقد اشتغل، في سنّ الشباب، ناسخاً في وكالة الأنباء (الاسوشيتيد برس) ثم محرراً لأخبارها، وحين استهواه الأدب تعرّف إلى همنغواي وراسله، وطلب منه النظر في قصصه الأولى، ثمّ تحوّل عنها إلى كتابة الشعر، على الرغم من أنّ همنغواي أثنى على قصصه، لكنه لم يشأ أن يكون همنغواي الثاني، وراسل الشاعر عزرا باوند، الذي أثنى على قصائده أيضاً.
لقد رحل هيرشمان، في مثل هذه الأيام، بعد أن ترك وراءه حوالي مئة كتاب في الشعر، وقد ترجم شعره إلى لغات عالمية كثيرة، ومنحته مدينة سان فرانسيسكو الإشراف على أهم مهرجان شعري يقام فيها، وكان عضواً في (كتائب الشعراء الثوريين)، و(رابطة الثوار من أجل أمريكا الجديدة)، وقد هجا مدينة نيويورك لأنها مدينة بلا عاطفة، بلا قلب، كونها أحد مراكز الرأسمالية.
عاش مع شاعرة وفنانة سويدية (أنيتا فالك) آخر سنوات حياته، من مؤلفاته الشهيرة (الألف السوداء) رحل وحيداً في 22 آب 2021، ولم تمشِ في جنازته سوى زوجته، ومواقفه، وغناء هامس خفوت.. يهمهم: تحيا الحرية!.
Hasanhamid55@yahoo.com