مرآة حضارة الشعوب.. السوريون يعدّلون مزاجهم بالموسيقا
ليندا تلي
جميعنا لديه أغنية تجعله يبكي وأخرى تشحذه وتدفعه للركض أكثر أثناء ممارسة الرياضة، وثالثة يغفو عليها قبل النوم، ورابعة تبثّ النشاط به وتحفّزه أثناء العمل وتنتشله من الأسى فتنقله إلى مكان أكثر سعادة، تعبّر عمّا لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه، وهي رفيقة الراعي في وحدته حين ينفخ في مزماره فتصدح أنغاماً تجعل نعاجه ترعى بأمان، وكذا الرضيع الذي يكفّ عن البكاء ويغفو على صوت غناء والدته.
لا حدود لها..
الموسيقا لا تعرف حدوداً ولا تحتاج إلى قواميس لشرح مفرداتها، فالصغير والكبير على حدّ سواء قادر على استقبالها والتفاعل معها، كيف لا وهي أحد الحلول البديلة التي نجح الناس في استخدامها للتخفيف من التوتر والقلق والتدهور المعرفي عند كبار السنّ الذي يصل إلى درجة النسيان وفقدان الذاكرة، إضافة إلى قدرتها على التخفيف من الألم بعد العمليات الجراحية وبثّها السكينة والهدوء في الأرواح المتعبة.
وفي السياق ذاته، توصّلت دراسة جديدة إلى أن الموسيقا قد تكون وسيلة علاجية غير دوائية للتدهور المعرفي الطبيعي المرتبط بالشيخوخة، وعلى النقيض تماماً قد يكون للاستماع العشوائي للموسيقا أثر سلبيّ في مشكلات نفسية وصحية، فعلى سبيل المثال، قد تؤدّي الموسيقا المرعبة أو الموسيقا التي تذكّر الشخص بأحداث حزينة مرّ بها إلى التوتر والضغط النفسي، بل الاكتئاب، إذ إن الموسيقا ذات الإيقاع البطيء تقلّل معدّل ضربات القلب وتجعل الشخص يشعر بالهدوء بشكل كبير، بينما تميل الموسيقا الفوضوية وذات الإيقاع السريع إلى إحداث تأثير معاكس.
طقوس بدائية
كان الغناء والرقص جزءين من طقوس الإنسان يستخدمهما لطرد الأرواح الشريرة باعتبارهما سبباً للأمراض وفقاً لمعتقداته، ويقال: إن كهنة معبد أبيدوس في مصر كانوا يعالجون الأمراض بالتراتيل المنغّمة باعتبارها تقرّب المرضى من الآلهة، أما كونفوشيوس العظيم فكان يعزو الانسجام في حياة الإنسان الاجتماعية إلى تعلقه بالموسيقا، بينما أبقراط كان يردّد دائماً أن كلّ مريض يحتاج إلى نوع معيّن من الموسيقا وفقاً لمرضه وحالته الصحية حتى لا تأتى بآثار عكسية.
اختلال معرفي
الاختصاصية النفسية الدكتورة سلام قاسم ترى أن الاختلال المعرفي المعتدل هو المرحلة الفاصلة بين الانحدار المتوقّع في الذاكرة والتفكير مع تقدم العمر والانحدار الأكثر خطورة الذي يسبّبه الخرف. ومن أعراض الاختلال المعرفي المعتدل، وفق ما وصفت الدكتورة قاسم، ظهور مشكلات في الذاكرة أو اللغة أو إصدار الأحكام، فقد يلاحظ الأشخاص المصابون بالاختلال المعرفي المعتدل أن ذاكرتهم أو وظيفتهم العقلية “تراجعت”، وقد يلاحظ أفراد الأسرة أو الأصدقاء بعض التغييرات.
وسيلة علاجية غير دوائية
وتعقيباً على نتائج الدراسة التي استعرضناها في مقدّمة مقالنا، تبيّن الدكتورة سلام أن الموسيقا ربما تكون وسيلة علاجية غير دوائية للتدهور المعرفي الطبيعي المرتبط بالشيخوخة، وبينما تمّ تطوير العلاجات الدوائية لإبطاء التدهور المعرفي، فإن هذه التداخلات غالباً ما تكون لها آثار جانبية وربما لا تكون فعّالة لجميع الأفراد، حيث ثبت أن التداخلات غير الدوائية مثل التدريب المعرفي والتمارين البدنية، تؤثر بشكل إيجابي في الوظائف الإدراكية لدى كبار السن، حيث أدّى تطبيق العلاج بالموسيقا إلى زيادة المادة الرمادية لدى المشاركين بالدراسة وزيادة المعرفة الموسيقية والعزف على الآلة الموسيقية لتعزيز مرونة الدماغ والاحتفاظ المعرفي وفق الدكتورة سلام، التي أضافت: إن التدهور المعرفي يؤثر في الصحة العامة والوظائف الإدراكية المرتبطة بالعمر، والتداخلات الدوائية غالباً ما يكون لها آثار جانبية فاعلة عند بعض الأفراد، فإذا استطعنا مع التقدم في السن العزف على آلة موسيقية فهذا جميل جداً، وإن لم نستطع فالاستماع إلى الموسيقا مفيد جداً لأنها تبطئ من التدهور المعرفي.
أفكار.. مشاعر.. سلوك
الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة أمل قدور تقول: إذا نظرنا إلى الموسيقا من خلال مثلث: الأفكار.. المشاعر.. السلوك، عندها نستطيع أن نفهم أهمية استخدام العلاج بالموسيقا، فعند الاستماع إليها تتحرّك مشاعرنا ومن ثم تتولّد لدينا أفكار مترافقة مع تلك المشاعر التي تنعكس بدورها سلباً أو إيجاباً حسب مشاعرنا وأفكارنا تجاه هذه الموسيقا، وهنا يكون دور المعالج في تحفيز العقل بطريقة إيجابية تؤثر في الصحة العقلية والنفسية وتحسّن مزاج الشخص وتزيد من إفراز هرمون الدومابين المرتبط بمراكز المتعة وإفراز هرمون الأوكسبيوسين الذي يعزّز القدرة على التواصل مع الآخرين.
وعند الاستماع للموسيقا، فإن ذلك يقلّل من التوتر والقلق ويساعد على الاسترخاء ويحسّن من النوم، إضافة إلى أثره في التخفيف من أمراض الشيخوخة وضغط الدم، وتصلّب الشرايين وغيرها، وتلفت الدكتورة قدور إلى أنه في حال تمّ توظيفها بشكل صحيح وبما يتناسب مع الشخص فهي تساعد بشكل كبير على تحسين الأداء المعرفي والإدراكي لكبار السن، وهذا ما أشارت إليه الرابطة الوطنية للعلاج بالموسيقا من خلال التجارب التي قامت بها، حيث قامت بتجربةٍ على فئتين من كبار السن تمّ طلب مهمّة منهما، المجموعة الأولى قامت بأداء المهمّة مع الاستماع إلى موسيقا كخلفية للعمل، والمجموعة الثانية دون موسيقا، فأظهرت النتائج أن المجموعة الأولى أدّت المهمّة بإتقان أكثر ودون تذمّر، فالموسيقا وفق ما ذكرت الدكتورة قدور إذا كانت مع كلمات أو دون كلمات لها دور علاجي مهمّ لكبار السن.
إيجابية ولكن لها دور سلبي
جميعنا يدرك فوائد الموسيقا وقدرتها العلاجية نفسياً ودورها الإيجابي، وفق ما استعرضت الدكتورة قدور التي أضافت: إذا تكلمنا عن تأثيرها السلبي بالعودة لمثلث: أفكار.. مشاعر.. سلوك، نطرح مثالاً بسيطاً: شخص يبلغ ثمانين عاماً يعيش مع زوجته ويعاني من أمراض الشيخوخة استمع إلى أغنية لأم كلثوم، وهذه الأغنية كانت بداية تعارفهما وبينهما قصة حب طويلة، اليوم عندما يستمع للأغنية تحرّك مشاعره السعيدة وتتولّد أفكاره الإيجابية لتلك اللحظات، وبالتالي تخفّف من شعوره بالتوتر والقلق وتحفّز هرمون الدومابين، ولكن عندما يستمع إلى هذه الأغنية وزوجته قد توفيت عندها تكون المشاعر والأفكار مختلفة تماماً، وقد تؤثر فيه بشكل سلبي ويشعر بالحزن وأن العالم كله حزين معه، وبالتالي ينعكس على سلوكه وصحته العقلية والجسدية، فالموسيقا سلاح ذو حدّين، لكن الجانب الإيجابي هو الأكبر، وهذا يعتمد على قوة المعالج وفي الوقت نفسه على الشخص.
تناغم بين الروح والجسد
الشابة ماريا خضرة تقول: أعزف على آلة الفيولا منذ عمر السابعة وقد اخترتها بشغف وحبّ لأنها تجمع كل أنواع الموسيقا، فهي تأخذني إلى عالم آخر مليء بالرضا، وتضيف: إن للموسيقا دوراً كبيراً في التناغم بين الروح والجسد، فعندما يمسك الإنسان آلته الموسيقية يستطيع التغلب على سلوكيات نتيجة غضب أو انفعال ليسود مكانها شعور بالهدوء والسكينة وراحة البال، لدرجة أنه ينسى نفسه بين درجات السلم الموسيقي، وحتى إذا كان يعاني من مشكلة نفسية أو ضائقة مادية كما في هذه الظروف التي يعيشها أهلنا، فإن الإنسان حال سماعه للموسيقا أو عزفها تتولّد في داخله طاقة إيجابية انسجاماً مع اللحن لدرجة تنسيه ألمه النفسي.
تهذيب النفس
أما شقيقها الشاب سيف فيرى أن الموسيقا تسهم في التخفيف من مزاجية الأفراد وتحسين حالتهم النفسية، كما أن الاستماع لموسيقا هادئة قبل النوم يساعد في الحصول على نوم جيد، لأنها وسيلة ناجحة لضبط النفس وتهذيبها، وهذا ما وجدته عندما بدأت العزف على الغيتار منذ تسع سنوات، فقد أسهمت الموسيقا في تحسين سلوكي.
تشاؤم لطيف
الآن هناك العديد من المراكز الطبية للعلاج بالموسيقا في أمريكا وأوروبا تخصّص لها ميزانيات ضخمة، وفي اليابان مراكز علمية تُعنى بعلاج الأطفال المتخلفين عقلياً بالموسيقا، وهنا نتساءل: هل يمكن أن نشهد في مجتمعاتنا الشرقية مراكز كهذه أم كما علّق بعضهم نخشى ونخاف على الموسيقا أن تنقرض أو تُفرض رسوم على من يريد سماعها!، فالجشع والطمع وانكماش التكافل الاجتماعي والإيثار باتت قيماً منتشرة في ظل طغيان العامل المادي على حياة البشر!.