أبو علي مصطفى وناجي العلي في ذكرى استشهادهما.. نضال البندقية والريشة
لم يكن غريباً أن تعقد أكاديمية دار الثقافة في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ندوة في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة عن الشهيدين أبو علي مصطفى وناجي العلي في ذكرى استشهادهما، وذلك بمشاركة المناضل أبو علي حسن والفنانين سعد القاسم وغازي نعيم، حيث القواسم المشتركة بين الشهيدين كثيرة. وقد بيّن مدير الندوة الكاتب والمخرج وليد عبد الرحيم أنهما من أهم الشخصيات التي أنجبها الشعب الفلسطيني، فكلاهما كرّس حياته من أجل فلسطين، وكان لكلّ منهما مشروعه الخاص، فأبو علي مصطفى مناضل اتخذ منهج الكفاح المسلح، وناجي العلي مناضل اتخذ من ريشته سلّماً للصعود إلى قمة الكفاح والنضال في سبيل فلسطين، وكما جمعتهما الحياة جمعتهما الشهادة، حيث رحلا في مثل هذه الأيام في سبيل قضيتهما.
الكفاح المضني
وأشار أبو علي حسن في كلمته إلى أن الحديث عن الشهيد أبو علي مصطفى يعني الحديث عن فلسطين والمقاومة، وعن فارس امتطى جواده منذ أن كان طفلاً يبحث عن وطن سلبته العصابات الصهيونية، وقد أدرك مبكراً معنى الوطن والحرية فتحوّل إلى فكرة وجودية، هوياتية، تحررية وإنسانية، تبحث عن الحرية والانعتاق، وتجسّد الحياة لا الموت، مبيناً أنه ابن عرابة، ابن جنين، عبقرية الزمان والمكان، وابن المسيرة الطويلة في الكفاح المضني، يوم كانت فلسطين في تكوينه النفسي والمعنوي ووعيه الجنيني، ويوم كانت مشاعره تهتزّ لأغنية “من سجن عكا طلعت جنازة”، وهو الشاب الذي توحّدت روحه وروح فلسطين، فلا ماتت روحه ولا ماتت روح فلسطين، وهو المؤمن أن فلسطين هي الوجود والهوية الوطنية والخلود الأبدي، فلا الشتات وطن ولا الخيمات خلود، وأن ما صنعه الشتات وعرب التطبيع والهزائم لم يكن أقل مما صنعه الكيان الغاصب بالشعب الفلسطيني، حين قذفه إلى الشتات محاولاً أن يمحو فيه رموز الهوية والعودة كي يقطع طريق العودة والكفاح. وأوضح أبو علي حسن أن الشهيد كان يؤمن بأن المقاومة هي التي تعمّق هوية الشعب الفلسطيني وتواصلها وطنياً وعربياً وعالمياً، فظلّ يقاوم إلى أن اغتيل في 27 آب عام 2000.
رسام كاريكاتور عربي
وطالب الفنان سعد القاسم في مشاركته بالتمعن في علاقة فنان الكاريكاتير ناجي العلي بفن الكاريكاتير ومفهومه لهذا الفن، ورأى أن الحديث عنه كرجل صاحب موقف واضح وصريح ليس موضع نقاش، وهو الذي دفع عمره ثمناً له، وقد وجد في الكاريكاتير وسيلة للتعبير عن موقفه، فكانت رسومه الأولى على قماش الخيمة في عين الحلوة وداخل السجون، إلى أن التقى الشاعر غسان كنفاني الذي أدهشه بإنتاجه فدعاه لنشره في مجلة “الحرية”، مشيراً إلى أن أكثر ما يميّز ناجي العلي كرسام كاريكاتير غزارة إنتاجه، حيث قُدّر ما نُشر له في حياته الفنية بأكثر من أربعين ألف رسم، مع إشارته إلى أن هذه الغزارة لم تكن السبب الأساسي في انتشاره الجماهيري وإنما نهجه الفني الذي طوّره بسرعة ليصبح قادراً على الوصول إلى الناس من خلال رموزه التي كانت في غاية البساطة: غصن الزيتون، حمامة السلام، بندقية، واستخدام الكلام حين يجد حاجة لذلك، مؤكداً أن وجهة نظر العلي في العلاقة بين الشكل والمضمون في فن الكاريكاتور تنسجم مع أكثر الآراء حداثة، فالكاريكاتير دون جميع أنواع الفن التشكيلي لا يمكن أن يكون دون فكرة: “اكتشفتُ أن التركيز على الفكرة أفضل ما يمكن أن أتوصل إليه، علماً أن ذلك كان في بعض الأحيان على حساب التقنية”، وأن هذا القول للعلي برأي القاسم يدلّ على أن الفنان الشهيد كان يدرك تماماً ما يريد من خلال عمله الفني، منوهاً بأن الدراسة النقدية لأعمال العلي ليست أمراً سهلاً، ومع هذا فإن استعراضها في السنوات الأخيرة من حياته يؤكد بوضوح أن الجانب الفني والتقني لم يكن غائباً عن تجربته، فلوحته الكاريكاتيرية مبنية على أسس تشكيلية صحيحة بحيث يراعي فيها مسألة التوازن بين عناصرها المختلفة، مؤكداً أن العلي أكبر بكثير من مجرد كونه رسام كاريكاتير فلسطيني، فهو رسام كاريكاتير عربي بكل معنى الكلمة، ورسومه تناولت الهمّ العربي وهموم المواطن العربي، فحنظلة الشخصية الرمز الأشهر عنده. وأشار القاسم إلى أننا لا نستطيع اليوم أن نحكم حكماً صحيحاً على كثير من أعمال العلي إن لم نضعها في إطارها الزمني الذي رُسمت فيه، فهو كان رسام كاريكاتير صحفي بالمعنى الدقيق للكلمة، له رؤيته الخاصة للأحداث وموقفه الصريح منها، وعلى هذا فإن الحديث عن خليفة له يجافي الحقيقة، وهو شيء لا يمكن تحقيقه، فخصوصيته أنه يمتلك موقفاً واضحاً وهو أعطاه تلك الأهمية التي لم يبلغها فنان عربي سواه، ما دفع كثيرين بعد ذلك إلى تقليد أسلوبه أو تقديم أنفسهم كخلفاء له، وقد استعار بعضهم أسلوبه ليقدم أفكاراً مغايرة لما آمن به ودفع حياته من أجله حين اغتيل في 29 آب عام1987، وأسف القاسم أن ناجي العلي دُفن بعيداً عن وطنه، وحيل حتى بينه وبين تحقيق رغبته الأخيرة بأن يدفن في ترابه.
علامة فارقة
وأشار الفنان غازي نعيم في كلمته التي ألقاها الفنان محمود خليلي إلى أن ناجي العلي أحد المساهمين في تطوير فن الكاريكاتير، وهو الذي التحق بصفوف حركة القوميين العرب عام 1959 وسُجن كثيراً بسبب حبه لفلسطين وتأثر بآراء غسان كنفاني الذي تعرّف عليه عام 1960 في مدينة صور، حيث قام بتشجيعه ودعمه ورعايته من خلال نشر أعماله على صفحات مجلتي “الحرية” و”الطليعة”، مبيناً أن ناجي العلي صاحب أسلوب مميّز جعله علامة فارقة في تاريخ الكاريكاتير العربي والعالمي، وهو صاحب رؤية وموقف ومضمون إنساني ثوري ملتزم، بالإضافة إلى ذلك كان من أكثر الرسامين العرب إبداعاً ووعياً لتقنية الكاريكاتير ومفهومه وفاعليته وأهميته، إذ اتسم أسلوبه ببساطة الرسم واعتماد الإيجاز الذي يحمل تعبيراً ينشد الكشف عن معاناة شعبه وأمته، لذلك كان الكاريكاتير عنده بمثابة سلاح سياسي، فأرسى أركان فن الكاريكاتير السياسي، ودعّم قواعده بكل جدارة واقتدار خلال مسيرته الفنية التي قضاها متنقلاً بين المجلات والصحف العربية كي يؤدي واجبه ودوره كمبدع عربي أصيل ملتزم يعيش همَّ الأمة ويعاني مآسيها، فبقيت أعماله الكاريكاتورية تحمل مادة الحياة في طياتها، وتنبض بروح القضية ووجدانها، مذكّرة قاتليه بجريمتهم، رافضاً الاعتراف بالمحتل والتطبيع معه والمساومة على دماء الشهداء والأسرى وأحزان الأرامل ونداء الأرض، فأشهر ريشته– السيف مبكراً دون أن يخشى أو يجامل أحداً لأنه كان مؤمناً أن الوطن العظيم يحتاج إلى فن عظيم لا يقبل المساومة أو المهادنة أو التفريط والتنازلات بأية حجة.
يُذكر أن معرضاً فنياً تمّ افتتاحه قبل الندوة حمل عنوان “فلسطين بطولة التاريخ والجغرافيا” شارك فيه عدد من الفنانين، نذكر منهم: محمد الركوعي- معتز العمري-موفق السيد- محمود خليلي- حنان محمد.
أمينة عباس