“أسرار رسمية”.. انتصار الضّمير سينمائياً وموته واقعياً
نجوى صليبه
تعارض “كاثرين، الممثلة كيرا نايتلي” المترجمة في “مكاتب الاتّصالات الحكوميّة الاستخباراتية” البريطانيّة، أقوال رئيس الحكومة “توني بلير” ونيّته الهجوم على العراق، لكنّها لا تجاهر برغبتها أن يعيش العالم كلّه بسلام، إلّا أمام صديقها وزميلها في العمل، فيما عدا ذلك تستمر بحياتها الرّوتينية مع زوجها “يسار” الممثل الفلسطيني آدم بكري، وهو لاجئ يعمل في أحد مقاهي المدينة، إلى أن تصلها رسالة من “فرانك كوزا” رئيس أركان في قسم الأهداف الإقليميّة في “الاستخبارات الأمريكيّة” يطلب فيها التّنصّت على ممثلي بعض الدّول في منظمة “الأمم المتحدة” من أجل ابتزازهم بأيّ شيء والضّغط عليهم ليغيّروا مواقفهم ويؤيّدوا الولايات المتّحدة في قرارها غزو العراق.
تقلب هذه الرّسالة حياة “كاثرين” رأساً على عقب، فمن واجبها الدّفاع عن وطنها وخدمته من جهة، ومن جهة أخرى هي إنسانة تحترم ذاتها وقناعاتها وآراءها المناهضة للحرب، حالها حال كثير من المواطنين البريطانيين ـ والأوروبيين عموماً ـ الذين تظاهروا ضدّ الحرب على العراق، ظنّاً منهم أنّ حكوماتهم ستصغي إلى أصواتهم ومطالبهم، لكنّها تقرر إرضاء إنسانيتها ودعم قرارها بفعلٍ يهدّد مستقبلها المهني والأخلاقي في نظر القانون، فتصوّر الرّسالة وتذهب سرّاً إلى صديقتها المناهضة للحرب أيضاً، وبدورها تسرّب الرّسالة إلى صديقها في صحيفة “الأوبزيرفر” البريطانية، فيبدأ الصّحفي “مارتن برايت ـ الممثل مات سميث” تحقيقه الاستقصائي، ويكمله زميله وبطريقته يتأكّد من صحّة الوثيقة، فتنشرها الصّحيفة على مسؤوليتها، لكن اجتهاداً شخصيّاً من العاملة في التّنضيد يغيّر الحدث ويقلب الموازين مرّة أخرى، إذ تستبدل ـ بحسن نيّة ـ كلمة يستخدمها المتحدّث بالأمريكية بأخرى يستخدمها المتحدّث بالبريطانية، وتعترف بذلك عندما يدقّق الصّحفي في النّسخة التي أرسلها إليها والأخرى المنشورة في الصّحيفة، وعلى الرّغم من ذلك تحدث الوثيقة المنشورة ضجّة كبيرةً، وتبدأ الوسائل الإعلامية بمقابلة الصّحفي والسّؤال عن مصادره، بما فيها صحيفة أمريكية مشهورة كانت على وشك تبنّي القضية لكنّها في اللحظة الأخيرة اكتشفت الخطأ.
تواجه “كاثرين” الأمرّين، فبعد نكرانها تسريب الوثيقة تعترف لمحقق “المكاتب” بأنّها هي من سرّب الرّسالة وتواجهه وتدافع عن موقفها، ومن ثمّ تجد نفسها متّهمة بالخيانة، فتخوض معركة أخرى على مستوى أوسع وأشدّ خطراً، مستعينة بإحدى الجمعيات الحقوقية، فيطلب منها المحامي “بن إيمرسون ـ الممثل رالف فينيس” الإصرار في أي جلسة استجواب على أنّها سرّبت الوثيقة حمايةً للشّعب البريطاني من الحرب وليس إضراراً به، لكنّ للأسف لم يكن دفاعها مقنعاً للمحققين، فقرروا محاربتها والضّغط عليها بطريقة أخرى، مطالبين بترحيل زوجها الذي لم يحصل على الإقامة بعد.
كان ما سبق ملخصاً بسيطاً لفيلم “أسرار رسمية” للمخرج “جافن هود”، الذي يحمل اسم قانون معروف في مكاتب الاستخبارات بـ”قانون الأسرار الرّسمية”، وبموجبه يتمّ تقنين المعرفة التي يحصّلها العاملون لضمان عدم خروجها للعلن طوال حياتهم مهما كانت الأسباب، والفيلم الذي عُرض أوّل مرّة في عام 2019، كتب نصّه كلّ من “غريغوري بيرنشتاين” و”سارة بيرنشتاين” وهو مأخوذ عن قصّة حقيقية وقعت قبيل غزو العراق في التّاسع عشر من آذار من عام 2003، حينها كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تبرير غزو العراق بكلّ الوسائل، ومن ضمنها موافقة ومساعدة المملكة المتّحدة.
ولا يستند “هود” على الوقائع فحسب، بل يمزج بين الوثائقي والدّرامي، إذ تظهر “كاثرين” في النّهاية وهي تسير وحيدة إلى المحكمة، وكلّها تصميم على قول الحقيقة مهما كان الثّمن، على الرّغم من خوفها في بداية الفيلم وشعورها بالنّدم، وهناك تتفاجأ كما الجميع بسحب ممثل الادّعاء مرافعته، وتراجع الحكومة عن اتّهامها بالخيانة، فتخرج “كاثرين” إلى الإعلام بريئة وتقول إنّه لو أتيحت لها الفرصة مرّة ثانية لفعلت الشّيء ذاته من دون تردّد.. وهكذا ينتصر الضّمير سينمائياً ويموت واقعياً، فالغزو وقع ونتائجه كانت كارثيةً وما تزال تبعاته تلقي بظلالها على الشّعب العراقي.
ولا يهمل “هود” التّفاصيل الدّقيقة والصّغيرة التي يتطلبها عمل وثائقي ودرامي وسيرة ذاتية أيضاً، من ممثّلين ثانويين في مكاتب العمل والمحكمة والشّارع ومقاطع قديمة من المظاهرات، سواء أكانت عبر شاشات التّلفزة أو مزجها مع المشاهد المصوّرة.
اللافت في العمل، إضافةً إلى القصّة الأساسية التي لم يُضئ عليها الإعلام الغربي إلّا بعد غزو العراق بسنوات، هو تقديم المخرج للإعلام سواء المؤيّد للحرب أم المناهض لها، وكيفية تعاطي الصّحفيين مع تسريب الوثيقة، فالصحفي المناهض للحرب يمسك أوّل الخيط وعندما يظنّ أنّه أدرك آخره، يترك أوّله بقصد أو بغيره، ومن ثمّ يعود إلى نقطة البداية ليكتشف ما لم يكتشفه في المرّة الأولى ويقول كلمة الحقّ، أمّا المؤيّد للحرب فلا يقلّ اجتهاده عن السّابق، لأنّ الكذب والادّعاء بحاجة إلى أدلّة ووثائق لكي يقنع الجمهور، وبحاجة إلى أدوات وأموال طائلة وهي متوافرة أيضاً، لذلك من السّهل أن ينجح في تحقيق هدفه ولو لفترة مؤقّتة، وهذا هو المهمّ بالنّسبة إليه، وهذا ما نجح فيه الإعلام الأمريكي قبيل غزو العراق، وما اشتغل عليه الإعلام الغربي في بداية الحرب على سورية، الأمر الذي احتاج فترةً طويلةً لكي يعرف المشاهد والقارئ والمستمع حقيقة ما جرى ويجري.