مجلة البعث الأسبوعية

رسائل للأدباء الشباب

سلوى عباس

“أنت جواب السؤال.. رسائل إلى الشباب”، كتاب للروائي الألماني هيرمان هيسه ترجمة أحمد الزناتي ويتضمن رسائل مختارة للأديب هسه يتوجه فيها إلى الشباب، يقدم لهم خلاصة تجاربه الأدبية وتأملاته في الحياة والفن، حيث كرس هسّه تركيزه في نهاية عشرينيات القرن الماضي وبعد ذيوع صيته على محورين أساسين: الأول هو كتابة مراجعات لأعمال أدبية وفكرية غير معروفة للقارئ الأوروبي بهدف حثّه على تغيير ذائقته الأدبية، وتعريفه بأعمال قد لا يعلم بوجودها من الأساس، والمحور الثاني تركز على اهتمامه بالتواصل مع الكتّاب الشباب، وخاصة المغمورين الذين آمن بموهبتهم الأدبية، وتقديمهم إلى جمهور القراء، وحين نقرأ هذه الرسائل نلتمس منها النصح ليس على صعيد جودة النص الأدبي فحسب، وإنما على صعيد قلق الكاتب الشاب المبتدئ، ففي إحدى رسائله لشاعر شاب يقول له: “إن الحقيقة صعبة المنال، بل أكاد أقول لك مستحيلة البلوغ، ومن هنا يتعذر الحكم على الموهبة الأدبية/ الشعرية لكاتب ناشئ لم تتيسر لي رؤيته وجهاً لوجه إلا عبر مجموعة نصوص، وأي شخص يخبرك بأنه قادر على تقييم موهبتك الأدبية من خلال مخطوطات أعمالك المبكرة، وكأنه خبير خطوط يحلّل شخصية مشتركة في بريد القرّاء في إحدى الجرائد، هو في الواقع إنسان سطحي إن لم يكن منافقاً”.

أحياناً كانت ترد إليه رسائل كان يصفها بأنها نزقة، لم يكلّف مرسلها نفسه عناء القراءة والبحث والجهد، فكان يقسو في ردّه أحياناً كما نقرأ في رسالة وردت من طالبة تدرس الفلسفة بإحدى الجامعات الألمانية، يقول هسـّه: “يغلب عندي انطباع بأنكم جيل الشباب تستخفون دائماً بالأشياء، تسخرون من كل شيء، تتحدّثين عن بوذا وتقولين إنك تحبينه بسبب أفكار لا علاقة لها ببوذا من قريب أو بعيد، بينما لا ترين فيه المبادئ التي عاش من أجلها وسعى إلى نشرها، إنك تقرأين كل شيء بسرعة، الأديان ورؤى المفكرين إلى العالم، كل شيء خاضع للاستهلاك السريع، وأنا لا أستطيع أن أجيب عن أسئلتك، لأني شخصياً ما زلت في طور البحث عن إجابات عن أسئلتي الخاصة، أقف على الدوام حائراً أمام قسوة الحياة على البشر، لكن على يقين من أن عبثية الحياة أمر طارئ عابر، يمكن تجاوزه من خلال السعي إلى أن أمنح حياتي معنى وغاية ما، كما أني لست مسؤولًا عن تبرير جدوى الحياة أو إثباث عبثيتها، فحدود مسؤوليتي تبدأ وتتوقف عندي أنا، أنا مسؤول عن نفسي، لا عن البشرية كلها، حدود مسؤوليتي تنتهي عند ما فعلته بحياتي التي سأعيشها مرة واحدة فقط، يبدو لي أنكم أنتم -أيها الشباب- تتملصون من مسؤولياتكم، وهنا مكمن الخلاف بيننا”.

ومما جاء في إحدى رسائله “لا يمكن للعمل الفني أن يولد من رحم الموهبة وحدها، وهناك هوة شاسعة تفصل بين الهاوي والفنان الحقيقي؛ فالهاوي غالباً ما يكتفي بأول فكرة تطرأ على ذهنه، فتأخذه الرهبة من مواصلة تطويرها وتشذيبها على مستوى اللغة والإيقاع الشعري، أما الفنان الحقيقي فيجد سعادته القصوى في الوصول بعمله الفني إلى درجة الكمال مهما تجشم من عناء، ومهما نقّح وصحح وعدّل”.

كذلك كثيراً ما كانت تصل هسّه رسائل متعلقة بتوصيات الكتب والأعمال التي ينبغي قراءتها، فيرد على استفسار من قارئ شاب قائلاً: “لا أومن بقائمة أفضل مئة كتاب أو أفضل ألف كتاب، فلكل إنسانٍ منا مجموعة كتب جميلة وقيّمة ينتقيها بعناية، هي المجموعة القريبة إلى نفسه وعقله، ولا يمكن لأي قارئ تكوين مكتبته الشخصية بمجرد شراء الكتب وتكدسيها فوق الرفوف، فالأولى به أن يصغي لصوت احتياجه المعرفي، وشغـفـه الشخصي، فيكوّن مكتبته الشخصية مثلما يكون صداقاته”.

وفي رسالته الأخيرة التي أرسلها قبل أشهر من وفاته في آب 1962 إلى طالبة أميركية اسمها سوزان برومبيرغ، ويستحضر فيها فكرة عرفانية من الشيخ محيي الدين بن عربي وردت في كتابه “العبادلة”، وهي فكرة “البدلاء”، إذ يقول ابن عربي: “ونور الشمس على صفة واحدة، فيضرب الزجاج المتلوّن، فينعكس، فيظهر فيه من الألوان ما عليه الزجاج في رأي العين، فالزجاج هو القلوب والألوان هي الاعتقادات، والحق لا يتغير، ولكن هكذا تراه”.

نستنتج من الرسائل التي كتبها هرمان هسّه والتي تجاوزت الآلاف أنه يرى في الأدب مسؤولية قبل كل شيء، فمن وجهة نظره أن الأدب الذي يبشر بقيم روحية وإنسانية قادر على خلق متجدد وخلق عوالم بديلة دائماً لعالمنا الذي يشوبه النقص وانعدام المعنى، فكم نحن بحاجة لكتّاب يعون مسؤوليتهم تجاه جيل شاب يتلمس خطواته الأولى في مجال الأدب فيقدمون لهم النصح وخلاصة فكرهم ورؤاهم ليكون لدينا جيلاً أدبياً شاباً يكون امتداداً  لمسيرة الرواد الأدبية.