الحريري: تدمر في قلب المعتقدات والثّقافات الدينية المختلفة
نجوى صليبه
أيّاً يكن اسمها في الآرامية أو العربية أو الأجنبية، ما يزال الحديث عن الموقع الأثري لمدينة تدمر يغري الدّارسين والباحثين، سواء أكان الموضوع حول منحوتاتها المكتشفة حديثاً أم حول عادات أهلها الاجتماعية وطقوسهم الدّينية التي كانت سائدة قديماً، يقول الدّكتور خليل الحريري المدير السّابق لمتحف تدمر: “لا تخلو أيّ حضارة من ميثيولوجيا وثقافة دينية خاصّة فيها ولها ميزاتها التي فصلتها عن الحضارات الأخرى أو قرّبتها منها”، موضحاً: “ولد الإنسان فوجد نفسه محاطاً بطبيعة متنوّعة، وعدّها ظاهرةً لأرواح خفيّة، فتساءل عن أصل الوجود وقوانينه، والكون وتكوينه، ومصيره وبدايته ونهايته، ولأنّه لم يجد تفسيراً علمياً لمختلف مكوّنات الطّبيعة، أخذ يجسّدها ويبرزها كائنات حيّة في ثوب رمزي، فعبّر عن مختلف أفكاره بآلهة لها أشكال بشرية، وجعل لكلّ قوّة إلهاً، ولكلّ فكرة ربّة نسب إليها أعمالاً خارقة وتخيّل لها أخلاقاً وصفات وميزات وعلامات بما يتّفق وعاداته ومفاهيمه وفكره في فجر وجوده، واعتقد بكائنات إلهية تملأ الكون وتحكمه فأحبّها وآمن بها وابتهل إليها وتقرّب منها وضحّى من أجلها، وتناقلت الأجيال هذه القصص المتوارثة التي أثّرت بشكل كبير في ثقافة الأجيال ومعارفها، وتأصلت في نفوس الأفراد فتمسّكوا بها ودافعوا عنها، وقدّموا لها الغالي والنّفيس من القرابين والأضحيات والعطايا، وبنوا لها بيوت العبادة والهياكل حتّى ترضى عنهم وأطلقوا عليها أسماء عظيمة إجلالاً لها، ومع الوفاء الخاص والورع الشّخصي للتّدمريين كانت الطّقوس والشّعائر الدّينية ذات أهمية كبيرة في حياة الفرد التّدمري”.
وخلال المحاضرة التي قدّمها في المركز الثّقافي العربي بـ”أبو رمانة” تحت عنوان: “المعتقدات الدّينية في مملكة تدمر”، بيّن الحريري أنّ تدمر كانت في قلب المعتقدات والثّقافات الدينية المختلفة لأنّها كانت نقطة التقاء بين الشّعوب والحضارات ومحوراً لكثير من الآلهة المتعدّدة، ومنها الآلهة المحلية أو الآلهة الوافدة إلى تدمر بحكم العلاقات التّجارية بين التّدمريين والحضارات الأخرى، يقول: “حفل البانثيون التّدمري بعدد كبير من الآلهة نذكر بعضها، الإله بعل الذي تربّع على قمّة مجمع الآلهة التّدمرية ويعادل عند الحضارات الأخرى زيوس عند اليونان وجوبيتر عند الرّومان، ومن غير المستبعد أن يتفرّع عنه آلهة تعبد بصفات كونية مثل إله الشّمس يرحبول وإله القمر عجليبول، والإله ملاكبل ربّ الحقول والقطعان، والإله بلحمون إله المياه الحامية وله معبد فوق جبل المنطار الواقع فوق نبع أفقا المقدّس، والرّبة اللات “مينرفا” وكانت على رأس قائمة الآلهة التي عبدت في تدمر وهي الرّبة المحاربة، وكان لها معبد في تدمر بالقرب من معسكر ديوقلسيان، واكتشفت منحوتات كثيرة تمثّلها، وأكثرها أهمية تمثال الرّبة اللات الرّخامي ومنحوتة أسد اللات، لدينا أيضاً الإله أرصو وعزيزو، وهما كوكبا الصّباح والمساء ومن أرباب القوافل المحبّبة لدى التّجار، والآلهة مناة وتعني المنية أو القدر والمصير ومعبدها مع الإله بلحمون، والإله دور حالون وهو من آلهة العرب في الجزيرة العربية وتعني “الدّوران حوله” أو الطّواف واكتشف له نص مع الإله بعلمشين في معبد بعلمشين”.
ويتابع الحريري: “بالإضافة إلى الآلهة المحلية والعربية، حفل البانثيون التّدمري بالآلهة الوافدة من الحضارات الأخرى، فاختلطت أسماء الآلهة وصفاتها مع بعضها البعض، لذا قد يعترض الباحث في تاريخ الأديان الكثير من الالتباسات في تحديد أسماء الآلهة، أو قد يخلط أحياناً بين الآلهة من حضارة إلى أخرى، ومنها اتارغاتس الرّبة السّورية ربّة منبج حيث كانت مركز عبادتها، وقد اكتشف نصّ لها بالقرب من قوس النّصر، وتبكا التي تمثّل حامية المدينة واكتشف لها تماثيل عدّة، أكثرها أهمية تلك التي مع الرّبة عشتار بجانب معبد نبو، وعشتار آلهة العاطفة الخصب والحياة، واكتشف لها منحوتة بجانب معبد نبو وتختلط وظائفها مع آلهة أخرى مثل اللات، ولها أسماء كثيرة تختلف من حضارة إلى أخرى فهي الأمّ السّورية وسيّدة السّماء والماء، ولدينا آلهة النصّر فيكتوريا التي كانت مخصّصة للملوك والأباطرة العظماء، أمّا في تدمر فقد جسّدت معنيين للنّصر الأوّل: نصر الجيوش التّدمرية على الأعداء في المعارك، حيث نراها تحمل إكليل الغار الذي كان يوضع على رؤوس القادة المنتصرين، والمعنى الثّاني: انتصار الموت على الحياة، إذ نراها تقف على كرة ـ وفي هذا رمز إلى الأرض ـ وهي مستعدة للطّيران وتحمل بيدها صورة لأحد الموتى لتطهيرها وإعادتها إلى مقرّها الأبدي، ولقد انتشرت عبادة هذه الآلهة بكثرة في تدمر واكتشف الكثير من تماثيلها”.
وعلى الرّغم من النّقص الكبير في النّصوص التي توضّح علاقة الإنسان التّدمري بالدّين، يؤكّد الحريري ضرورة الحديث عن بعض الشّعائر التي كانت تمارس في تدمر لتوضيح أهمية هذه العلاقة بين الفرد التّدمري وديانته، وذلك من خلال بعض الأمور المهمّة التي لها علاقة مباشرة بالدّين، مثل العيد الذي كان يقام في شهر نيسان، والطّواف، والأضحية، والوليمة الدّينية، وتقديم النّذور والقرابين، وحرق البخور، إضافةً إلى دور الكهنة في المعبد، والمدافن التي اهتمّوا بها كثيراً وطعام الموتى، ويوضّح: “بحسب الباحثين الأقدم منّا بكثير، فإنّ المشهد الجنائزي في تدمر كان يمثّل الحياة الدّنيا للميّت، لكن وبحسب المكتشفات الأثرية التي تغيّر مجرى التّاريخ ومن خلال الدّراسة رأيت أنّ المشهد الجنائزي يمثّل حياتي الدّنيا وما بعد الموت، هناك مدافن فيها تماثيل لأشخاص تدمريين وراءهم ستارة الموتى التي تعدّ نقطةً فاصلةً بين الحياتين، ونراها معلّقة بسعفي نخيل، ولأنّ النّخيل يحافظ على خضرته ولا يتساقط فهذا دليل على أنّ الحياة لا تتوقّف بعد الموت، أمّا التمائم فكانت توضع في القبور لمنع اللصوص وطرد الأرواح الشّريرة من التّعدّي عليها، إضافةً إلى وضع سراج داخل القبر، وآخر خارجه، كذلك كانوا يضعون مدمعة لتجميع دموع المشيّعين على الميّت، أمّا المذابح النّذرية فكانت موجودة بكثرة وبقياسات مختلفة، وكانت تقدم من الشّعب لإله النّبع لكي يبقى جارياً”.
ويختم الحريري بالقول: “إنّ خصوبة ونضوج الأفكار ونمو الاعتقاد الدّيني والرّوحي عند التّدمريين ساعد في إنتاج حضاري رائع بكلّ جوانبه، وبناء مدينتهم بالحبّ قبل الحجر، لذلك نافست مملكة تدمر أعظم الإمبراطوريات في تلك الفترة”.