التراث حياة يومية للناس
غالية خوجة
لا تصمتُ الجدران العتيقة عن الحكايات، ولا حجارة الأبنية عن الأنّات، ولا تكفّ الذاكرة المتفرعة من المعالم عن مسح دموعها ودموعنا من سنوات الظلمات، لكنه الزمن يمضي مع كل شمس تشرق لنستمع إلى أجمل ابتسامة تلك التي قيل عنها ابتسامة تبزغ من بين الدموع والآلام والجراح والآمال.
وما أجملها من ابتسامة تفيض من وجهها الخجول أو “الصبوح” كما يغني صباح فخري، ومن عمرها المنسوج بالحزن والفرح، وإرادتها المتبرعمة بهمّة عالية كهامتها، ومحبتها المزهرة دائماً بالصفاء، متحدية مختلف الظروف، وواثقة أنها تنتصر على المستحيل من خلال المحتملات، وهذا من جملة ما تتصف به المرأة السورية إضافة للذكاء الحاد، والتدبير الحياتي والمنزلي والاقتصادي، والصبر الجميل، والانتماء للجذور، وتقديس العمل، فنراها في البيت والحقول والمزارع والوظيفة والمهن الحرة والمصانع، كما أنها تبتكر الوسائل لتساعد نفسها وعائلتها، وتنطبق عليها الأمثلة الشعبية الإيجابية، مثل “الغزّالة تغزل على عود”، و”من الخيط أعمّر البيت”.
ومن هؤلاء النساء اللواتي قد تجدهن في أي مكان من هذا الوطن هذه المرأة التي صادفتها في ساحة باب الفرج، وعرفتني على اسمها: أديبة أم عبدو، وأخبرتني بأنها تحبّ المهن التراثية اليدوية وتجيدها، فتتنزّه مع أدواتها البسيطة في الهواء الطلق، تجلس هنا، أو في ساحة سعد الله الجابري، لتعمل من الخيوط الملونة ملابس للأطفال والكبار والألعاب أيضاً، وتزيينات لأثاث المنزل تضيف للديكور والاكسسوارات جواً فنياً، وتبيعها لتعيل أسرتها، وتواصل نسيج حياتها مع الخيوط، وهو ما تعلّمته من أمها التي ورثت هذه الخبرة من أمها وجدتها وعائلتها بشكل عام، ولا تجد صعوبة في إنتاج أي موديل، وبكافة أنواع الخيوط، ومنها التريكو والصوف والقطن والساتان والحرير.
تبتسم لكاميرتي بخجل، فأراعي مشاعرها كي لا تظهر ملامحها، وأركّز على يديها وخيوطها ومنتوجاتها المفروشة على الحافة بانتظار ذاك المشتري الذي سيدلّل ابنته بفستان زهري مصنوع يدوياً بطريقة فريدة.
ثمّة ظلال التقطتها عدسة الكاميرا، ومشهد لحركة يومية يبدو فيها صدى ذاكرة مرّتْ، وصوت ذاكرة تعبر، وحكايات تطلّ من شرفات البيوت ونوافذها الخشبية القديمة.