دراساتصحيفة البعث

الولايات المتحدة.. رائدة “الولاية القضائية طويلة الذراع”

عناية ناصر

قدّم الكونغرس الأمريكي في السادس عشر من شهر آذار الماضي قانون سياسة القمع العابر للحدود الوطنية، الذي نصّ على “محاسبة الحكومات الأجنبية عندما تطارد أو تقوم بترهيب أو تعتدي على الناس عبر الحدود”، والذي من شأنه أن يساعد في رفع مستوى مكافحة القمع العابر للحدود الوطنية كأولوية رئيسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ورغم أن مشروع القانون المكوّن من 32 صفحة لم يذكر الصين صراحةً، إلا أن العديد من أعضاء الكونغرس خاطبوا الصين بشكل مباشر في تصريحاتهم. لقد قامت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة بقمع المعارضة من خلال المراقبة السرية، والتنصت غير القانوني على المكالمات الهاتفية، والملاحقات العالمية، والصفقات التي تتمّ وراء الكواليس، لذلك إن “القمع العابر للحدود الوطنية” هو ادعاء يتوافق بشكل أفضل مع ممارسات الولايات المتحدة.

والآن تحاول الولايات المتحدة، رائدة “الولاية القضائية طويلة الذراع”، الاستفادة من هذا المفهوم الذي ابتكرته واستخدامه ضد الصين. على سبيل المثال، كشف برنامج التجسّس “بريزم” سيئ السمعة أن الولايات المتحدة هي أكبر ملاذ آمن في العالم للقراصنة الذين يرتكبون أعمال التجسس والمراقبة السيبرانية العشوائية وغير القانونية في جميع أنحاء العالم. وفي مواجهة الاتهامات الظالمة من جانب الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأفراد الصينيين في الخارج، لا يسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا كانت حكومة الولايات المتحدة قد نسيت برنامج “بريزم”.

إن كلّ حالة من حالات “الولاية القضائية ذات الذراع الطويلة” التي تستخدمها الولايات المتحدة يتمّ إعدادها ببراعة، ففي 17 نيسان الماضي، اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالي اثنين من المقيمين الصينيين الأمريكيين في مدينة نيويورك للاشتباه في “تشغيل وإدارة  مركز شرطة خارجي غير قانوني تابع للحكومة الصينية”، وزعمت حكومة الولايات المتحدة أنهم كانوا يراقبون ويرهبون المنشقين وأولئك الذين ينتقدون حكومتها من خلال الأجهزة الأمنية القمعية في الصين. ومن خلال تشويه سمعة “القمع العابر للحدود الوطنية” وتقديم مشروع قانون ذي صلة، تزعم الولايات المتحدة أن هذا “جزء من إستراتيجية أوسع لتعزيز المبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، محلياً ودولياً”.

في الواقع، تضع هذه التحركات الأساس لإساءة استخدامها المحتملة لـ”الولاية القضائية طويلة الذراع” ضد الصين في المستقبل. وكما هاجموا الصين بشأن الإبادة الجماعية المزعومة في منطقة شينجيانغ، لا يستطيع أحد ضمان صحة وموضوعية وأساس علمي وحياد “قواعد البيانات” المزوّرة المتعلقة بشينجيانغ وما يُسمّى بشهادات الشهود. والأهم من ذلك، من الذي منح الولايات المتحدة سلطة التدخل في شؤون الدول الأخرى ذات السيادة وحتى إجراء المحاكمات القانونية في مثل هذه الشؤون؟ في الواقع تدركُ الولايات المتحدة الإجابات على هذه التساؤلات أفضل من أي شخص آخر، وذلك لأن أولئك الذين أخطؤوا في حق غيرهم غالباً ما يعرفون أفضل كيف تعرّض الآخرون للظلم.

إن الولايات المتحدة، التي توظف على نحو متهور “الولاية القضائية طويلة الذراع” في كلّ مكان، تعمل كتهديد اجتماعي بلا أي إحساس بـ”الحدود”، فتلحق مصاعب عديدة بالمجتمع العالمي.

يمتلك القانون الدولي قيوداً متأصلة، إلى جانب التحولات السريعة التي تحدث في الاقتصاد العالمي والهياكل المجتمعية، مما يجعل من الصعب على الأنظمة الدولية مواكبة العصر. ونتيجة لذلك، غالباً ما تكون هناك حاجة إلى سدّ الثغرات في القواعد الدولية بالقوانين المحلية القائمة التي تتسم بالموضوعية والحيادية والقائمة على أسس علمية، وينبغي أن يمثل هذا النوايا العقلانية للدول ذات السيادة لتوسيع نطاق تطبيق قوانينها المحلية خارج حدودها. علاوة على ذلك، فإن الاقتصادات الكبرى سوف “تتحوّل إلى العالمية” حتماً خلال عصر العولمة، وتتطلّب حماية الحقوق المشروعة لأممها ومواطنيها شكلاً من أشكال الولاية القضائية الجنائية الموسّعة على الشؤون الخارجية.

والصين ليست استثناءً من هذا المبدأ، ففي مواجهة الطلب المتزايد على حماية المصالح الخارجية، يجب التفكير في كيفية إنشاء نظام “الولاية القضائية طويلة الذراع” الخاص بها، إلا أن هذا النهج يختلف جوهرياً عن النموذج الأمريكي المتمثل في “الولاية القضائية طويلة الذراع”:

أولاً، إن توسّع الصين في ولايتها القضائية خارج الحدود الإقليمية ليس بلا حدود، فهي لا تزال تلتزم “بالحدود” بين الدول وتسعى إلى تحقيق التوازن بين القوانين المحلية واللوائح الدولية. وعلى أقل تقدير، هناك معيار أساسي لا لبس فيه: احترام سيادة كل دولة، وفي تفصيل هذا الأمر، هناك مبدأ عدم التدخل الذي تتمسّك به الصين باستمرار.

ثانياً، لا تفرض الصين إرادتها بالقوة باعتبارها قوة مهيمنة. وبدلاً من ذلك، فإنها تضع نفسها كشريك على قدم المساواة، وتتولى دور ضامن السلام الدولي. كما يمكن للصين أن تقدّم تجاربها في مجال الحوكمة القانونية كنقاط مرجعية للمجتمع العالمي. على سبيل المثال، المنظمة الدولية للوساطة التي أنشئت في هونغ كونغ في شباط من هذا العام، هي أول منظمة قانونية حكومية دولية في العالم مكرسة لحلّ النزاعات الدولية من خلال الوساطة، أو خلال عملية من خلال إنشاء نظام دولي جديد، كما أن الصين على استعداد للاستماع بصبر لآراء الدول الأخرى، واحترام سياقاتها الوطنية وخيارات مواطنيها، واستخدام القنوات الدبلوماسية لحلّ النزاعات ودياً والبحث عن حلول مفيدة للجانبين، وبالتالي تحقيق أقصى حدّ مربح  للجانبين.

لا شكّ أن النظام الدولي العادل الذي يتسم بإحساس واضح بـ”الحدود” لا يمكن أن يعتمد فقط على المساعي الاستباقية التي تبذلها الدول ذات النوايا الحسنة، وهو ينصح الولايات المتحدة بألا تتدخل بشؤون غيرها، وأن تختار المسار الخاص بها بطريقة واعية، وأن تمارس المزيد من “الحدود” في التفاعلات الدولية، وأن تكفّ عن مدّ ذراعها لفترة أطول مما ينبغي.