مجلة البعث الأسبوعية

ضمن موسم الانقلابات المستمر.. انقلاب الغابون مثال آخر على الإرث الاستعماري الفرنسي

البعث الأسبوعية عناية ناصر

تعرضت الغابون، الدولة الواقعة في وسط إفريقيا والتي تحتل المرتبة 35 من حيث احتياطيات النفط وتنتج ما يقرب من 0.1% من إجمالي إنتاج النفط العالمي، إلى اضطرابات في 30 آب 2023 بسبب انقلاب عسكري وقع بعد دقائق فقط من إعلان فوز الرئيس، الذي حكمت عائلته ما يقرب من 50 عاماً، في انتخابات متنازع عليها.

وكانت الغابون التي يبلغ عدد سكانها 3.1 مليون نسمة فقط قد شهدت  ثلاثة انقلابات خلال السنوات السبعين الماضية. وتأتي هذه الحادثة ضمن موسم الانقلابات المستمر في أفريقيا، الأمر الذي أثار عدداً من الصعوبات وألقى بظلال من الشك على مستقبل المنطقة. واجه الزعيم المطرود، علي بونغو أونديمبا، المعروف غالباً باسم علي بونغو، عدة ادعاءات بتزوير الانتخابات والفساد خلال فترة حكمه التي استمرت 14 عاماً للدولة الفقيرة، لكن الغنية بالنفط. وفي أعقاب الانقلاب، ابتهج السكان المحليون في العاصمة وتظاهروا في الشوارع لصالح الجيش. ومع ذلك، هناك عدة أسئلة في أعقاب الانقلاب.

يقال إن علي بونغو قيد الإقامة الجبرية، وقد تم سجن ابنه، وتم إغلاق الحدود، ويبدو أن الحكومة غير قادرة على العمل وشلت حركتها، وقد أعرب الزعماء الدوليون عن قلقهم البالغ وأدانوا الانقلاب، وشجع البعض مواطنيهم في الغابون على البقاء في منازلهم لحمايتهم.

كيف وقع الانقلاب؟

تكشفت تفاصيل استيلاء الجيش على السلطة في 30 آب، بعد وقت قصير من إعلان هيئة الانتخابات في الغابون إعادة انتخاب الرئيس بونغو في أعقاب الانتخابات الأخيرة. وعلى أثر ذلك توجه جنود يرتدون الزي العسكري إلى التلفزيون الوطني ليعلنوا استيلائهم على السلطة، وأعلنوا أن نتائج الانتخابات لاغية وباطلة، وأغلقوا جميع الحدود، وحلوا مختلف الهيئات الحكومية، بما في ذلك مجلسي البرلمان.  وكشف قادة الانقلاب أن الرئيس بونغو كان محتجزاً في مقر إقامته ومحاطاً بـالعائلة والأطباء.

بالإضافة إلى ذلك، اعتقل قادة الانقلاب نور الدين بونغو فالنتين، نجل الرئيس المخلوع، مع ستة آخرين بتهمة “الخيانة العظمى”، وأظهر مقطع فيديو بونغو جالساً فيما بدا أنها مكتبة، معبراً عن عدم يقينه بشأن الوضع، وذكر أنه كان في منزله ولم يكن لديه علم بالأحداث الجارية. وفي الوقت نفسه، عين المجلس العسكري الجنرال بريس أوليغي نغويما كزعيم انتقالي. وأكد الجنرال نغويما، الذي كان ذات يوم الحارس الشخصي لوالد بونغو الراحل، الحاكم السابق للغابون، في مقابلة مع صحيفة “لوموند” الفرنسية أن الرئيس بونغو كان يتمتع بجميع حقوقه  كمواطن غابوني عادي.

لماذا حدث الانقلاب؟

لقد شهدت أفريقيا تحولاً كبيراً على مدى العقود السبعة الماضية، ومع ذلك فإن تأثير قوى ما بعد الاستعمار لا يزال له تأثير عميق على سياسات الدول الأفريقية، بما في ذلك الغابون، حيث لا يزال الإرث الدائم للاستعمار الفرنسي يخيم على السياسة الغابونية، وقد أثبت هيكل ما بعد الاستعمار أنه هش عندما يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية والمشهد السياسي العام في الغابون على مدى السنوات الأربعين الماضية .

ومن الجدير بالذكر أن عائلة واحدة لها علاقات وثيقة بفرنسا حافظت على قبضة قوية على الدولة، مما أدى إلى إدامة تأثير حقبة ما بعد الاستعمار، ويؤكد هذا الوضع الوجود المستمر لإطار ما بعد الاستعمار في البلاد . وقد ساهم الانسحاب الأخير للقوات العسكرية الفرنسية من مختلف الدول الأفريقية في تزايد الميل لمحاولات الانقلاب داخل بعض الفصائل. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الغابون حالياً تحديات اقتصادية، مما يزيد من السخط العام على الحكم الاستبدادي الذي طال أمده. ومن الجدير بالذكر أن الدول الأفريقية السبع التي شهدت محاولات انقلابية في العامين الماضيين تشترك جميعها في سمة مشتركة: أنها كانت مستعمرات فرنسية  سابقة.

وقد دفع هذا العديد من المراقبين إلى التساؤل عما إذا كانت فرنسا أو الإرث الدائم للاستعمار الفرنسي يتحمل المسؤولية عن عدم الاستقرار السائد في المنطقة. ولذلك اكتسبت المشاعر المعادية لفرنسا زخماً في جميع أنحاء منطقة الساحل، وخاصة في المناطق التي تسيطر فيها الشركات الفرنسية بشكل كبير على موارد التعدين.

عواقب الاستغلال

يسلط الانقلاب الأخير في الغابون الضوء على عامل أساسي مشترك في الانقلابات في جميع أنحاء أفريقيا وهو نمط دائم من الاستغلال. فقد أدت هيمنة القوى الخارجية في البلدان الأفريقية، بما في ذلك الغابون، إلى إضعاف هياكلها السياسية الداخلية. كما أثر الاستغلال، سواء من حيث الموارد الاقتصادية أو حتى الأعراف السياسية، على القارة الأفريقية بأكملها.  وبالتالي، فإن هذه الدول تكافح من أجل إنشاء أطر سياسية مستقرة لنفسها في السنوات المقبلة.

في حقبة ما بعد كوفيد-19، يتصارع العالم مع الاضطرابات السياسية، وقد أصبح هذا الاضطراب واضحاً الآن في العديد من البلدان. ويعكس تزايد الانقلابات في أفريقيا ميلاً متزايداً نحو الحكم العسكري في الاستجابة للتحديات السياسية العالمية.  وتظهر الأحداث الأخيرة في مالي والسودان وغينيا اتجاهاً متصاعداً، حيث يبدو أن السكان يفضلون الحكومات العسكرية، ويشكل هذا التطور تحدياً جديداً للنظام العالمي القائم، مع تضاؤل جاذبية الديمقراطية في أفريقيا. على مدى السنوات الثلاث الماضية، شهد عدد من البلدان الأفريقية، وأغلبها من المستعمرات الفرنسية السابقة مثل مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد والنيجر، والآن الغابون، انقلابات. وتهدد هذه الأحداث التقدم الذي تم إحرازه في عملية إرساء الديمقراطية في القارة على مدى العقدين الماضيين.

تاريخياً، كانت الانقلابات شائعة في أفريقيا خلال السنوات الأولى من فترة ما بعد الاستعمار، وغالباً ما كان يتم تبريرها من قبل القادة الذين يستشهدون بقضايا مثل الفساد وسوء الإدارة والفقر كأسباب للإطاحة بالحكومات. ومن المؤسف أن هذه المشاكل تبدو وكأنها تتفاقم في العديد من البلدان، مع تزايد عدد السكان في القارة الأصغر سناً في العالم مما يؤدي إلى اشتداد المنافسة على الموارد المحدودة.

وقد ساهمت هذه الظروف في عودة الانقلابات في الآونة الأخيرة، حيث أصيب العديد من الشباب الأفارقة بخيبة أمل من القادة الفاسدين المزعومين ويسعون إلى تغيير جذري، وقد تجلى هذا الشعور في الابتهاج الذي أعقب الانقلاب في الغابون، على غرار ردود الفعل التي أعقبت الانقلاب في غينيا قبل ذلك بعامين. وفي حين أن الصعوبات الاقتصادية وضعف نوعية القيادة غالباً ما تكون الأسباب الرئيسية وراء هذه الانقلابات، فإن الموجة الأخيرة من الأحداث تؤكد أن القارة الأفريقية تتبع اتجاهاً مثيراً للقلق.

تأثير التراجع الاقتصادي العالمي

لا تزال الغابون، على الرغم من ثرواتها من الموارد الطبيعية ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الذي يبلغ 8820 دولاراً أمريكياً، والتي تعتبر من بين أعلى المعدلات في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، تصارع الفقر على نطاق واسع . ولم تستفد سوى نخبة صغيرة من موارد البلاد، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة، التي وصلت إلى 37%، وفقاً للتقارير. ويعيش 35% من السكان تحت خط الفقر الذي يبلغ دولارين أمريكيين في اليوم.

جلب صعود علي بونغو أونديمبا إلى السلطة في عام 2009 معه وعوداً بالإصلاح الاقتصادي.  ومع ذلك، بحلول عام 2016، كانت الغابون لا تزال تعاني من الركود ، وقد أدى الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، ومحدودية الوصول إلى المياه، واتساع فجوة الثروة إلى تفاقم الصعوبات التي يواجهها الشعب الغابوني. وقد خلقت هذه الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والإحباطات المتزايدة أرضاً خصبة للاضطرابات السياسية والانقلابات.

تزايد شعبية الانقلابات

إن تراجع الديمقراطية في أفريقيا وزيادة الاستقطاب لدعم الأنظمة العسكرية، كما حدث في الانقلاب الأخير في الغابون، يشكل مثالاً صارخاً على هذه الظاهرة. في الآونة الأخيرة، كان الخيط المشترك الذي يربط بين هذه الانقلابات في جميع أنحاء القارة الأفريقية هو تآكل الأنظمة الانتخابية والتفضيل المتزايد للحكم العسكري.  وفي الغابون، نشهد مساراً مماثلاً، حيث يعبر السكان عن رضاهم وارتياحهم للدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية كمنقذ للأمة. وعلى الرغم من المحاولات السابقة لاستعراض الديمقراطية، فإن النفوذ الدائم للأنظمة العسكرية في هذه البلدان الأفريقية أدى تدريجياً إلى تحويلها إلى مؤيدين للحكم الاستبدادي.  وفي هذه العملية، حول السكان ولاءهم نحو الحكم العسكري أو الاستبدادي.

 ماذا قال العالم عن الانقلاب؟

أثار الانقلاب الأخير في الغابون انتقادات واسعة النطاق من الدول الأفريقية والدول الغربية، وأدان الاتحاد الأفريقي، الذي يمثل 55 دولة عضو، الانقلاب بشدة وأوقف الغابون عن المشاركة في أنشطته حتى استعادة النظام الدستوري.  كما أدانت المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا الانقلاب ودعت إلى الحوار لإعادة البلاد إلى الحكم المدني، وتخطط لمناقشة هذا الأمر بشكل أكبر مع الدول الأعضاء. أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه إزاء التقارير عن انتهاكات للحريات الأساسية خلال الانتخابات المتنازع عليها، لكنه دعا إلى احترام سيادة القانون وحقوق الإنسان.  عارضت وزارة الخارجية الأمريكية بشدة الانقلاب، وحثت قادة الانقلاب على التمسك بالحكم المدني والتعبير عن تضامنها  المزعوم مع شعب الغابون، ونصحت السفارة الأمريكية في الغابون المواطنين الأمريكيين بتوخي الحذر، ووضع خطط للإخلاء. من جهته رفض الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا، الانقلاب بينما تبادلوا المخاوف بشأن العملية الانتخابية، ومع ذلك، لم يكن لدى الاتحاد الأوروبي خططاً فورية لإجلاء موظفيه في الغابون.

باختصار، كان الانقلاب الأخير في الغابون سبباً في إثارة العديد من الاستفسارات حول المشهد السياسي في أفريقيا.  مرة أخرى، تشهد الساحة العالمية انقساماً كبيراً في الولاءات السياسية على مستوى العالم . وتستمر هذه الممارسات المثيرة للانقسام في تقويض التقدم المحرز في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويشكل الانقلاب الأخير في الغابون بمثابة تذكير صارخ بالاستغلال الذي طال أمده في أفريقيا، والذي أدى إلى إضعاف الهياكل السياسية المحلية. بالإضافة إلى ذلك، خلق الإرث الدائم لهيمنة ما بعد الاستعمار بيئة مواتية لمحاولات الانقلاب. ومع ذلك، فقد فشلت الجهود الرامية إلى تعزيز الديمقراطية إلى حد كبير، مما أدى إلى ظهور الحكم العسكري وفترة من عدم اليقين. ونتيجة لذلك، فإن رفاهية الأفراد والنمو الاقتصادي البطيء لهذه الدول هي التي تعاني من تداعيات مثل هذه الانقلابات. علاوة على ذلك، تتحمل شعوب أفريقيا وطأة هذه الانقلابات، مما يحتم على الإنسانية وقادة العالم إعادة النظر في نهجهم تجاه أفريقيا والعمل على إقامة مستقبل سلمي يستفيد منه الجميع ويكون لصالح البشرية.