مجلة البعث الأسبوعية

فرنسا تحشد قواتها في دول “إيكواس” لحماية ما تبقى من إرثها الاستعماري

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد  

تثور مجدداً التوترات والاستفزازات في محيط النيجر، حيث تحشد فرنسا قواتها في عددٍ من دول “إيكواس” بشكل يدعو للريبة والقلق والمخاوف من التلويح مجدداً بالتدخل العسكري في النيجر، بعد أن خبت نيران الأزمة، في ظلّ ما يعانيه ماكرون من أزمات متواصلة بدأت منذ جائحة كورونا، وصولاً إلى تداعيات الحرب الأوكرانية بالتزامن مع نهضة شعبية على مستوى الشارع الإفريقي الرافض لفرنسا بصورتها القديمة، وطردها مما كانت تعتبره “مستعمرات لها”، ناهيك عن الأزمات الداخلية المتعلقة بقوانين العمل والتقاعد، وسوء أوضاع المهاجرين وخاصة الأفارقة الذين يعاملون معاملة الـ”عبيد” في مجتمع يقدّم نفسه على أنه رائد في مجال حقوق الإنسان والحريات والمساواة، إضافة إلى مخاوف من انخفاض التصنيف الائتماني لفرنسا وتدحرج قيمة العملة الأوروبية عموماً.

لقد أعلنت فرنسا منذ بضعة أيام محادثات بينها وبين المجلس العسكري في النيجر لإعادة نشر قواتها، إلا أنها فشلت على ما يبدو في فرض شرطها الإذعاني بإعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، ورغم أن المجلس العسكري في النيجر أراد خلال مفاوضاته أن يحفظ ماء وجه باريس وتأمين طريقة ما لسحب قواتها مع تصحيح للعلاقات المستقبلية معها، حيث أكد ذلك رئيس وزراء النيجر المعين من قبل المجلس، لكن ماكرون لم يعجبه ذلك الطرح فأطل في قمة العشرين ليؤكد أن بلاده لا تتفاوض مع المجلس وليس له شرعية ولن تعيد انتشار قواتها إلا بأمر من بازوم حصراً، مظهراً مدى ازدواجية المعايير الفرنسية تجاه إفريقيا، إذ أنها تعاملت بكل لين مع انقلاب الغابون وعدة إنقلابات سبقته لكنها تصرّ الآن على إعادة عرابها بازوم إلى الحكم بحجة أنه أكثر زعيم إفريقي وصل إلى السلطة عبر الديمقراطية.

وفي وقت يواصل ماكرون نشر قواته في السنغال وبنين وكواتيغار تحت تسمية “قوات أوروبية” ملوحاً بالتدخّل العسكري في النيجر، فإنه من المستبعد أن يكون السبب وراء ذلك هو دفع تلك القوات بشكل فعلي للتدخل في النيجر، بل يرجح أن تكون هذه التحركات تخوفاً لأثر الدومينو الذي يتابع طرد فرنسا وقواتها الاستعمارية من المنطقة بشكل متسارع، حيث تخطط لإثبات وجود قواتها على الأرض لمنع أي تحركات انقلابية جديدة في إفريقيا، وخاصةً أن هناك عدد من الاستحقاقات الانتخابية القريبة في المنطقة بالتزامن مع توترات داخلية سببها التململ من تبعية الأنظمة السياسية لفرنسا، والمطالبة على الأقل بإعادة رسم العلاقة بينها وبين دول المنطقة إن لم نقل طرداً بشكل نهائي.

بالمقابل فإن جميع المؤشرات تدل على تراجع الاحتمال العسكري لحل أزمة النيجر، فحتى نيجيريا التي تتزعم الآن “إيكواس” عدلت عن تلويحها بالحل العسكري، وأيضاً “إيكواس” عدلت عن موقفها وتتحدث الآن عن إعطاء الأولوية للتفاوض مع المجلس العسكري النيجري، وخاصة بعد أن قرر الاتحاد الإفريقي أنه لا شرعية لتدخل “إيكواس”، كما أن القانون الدولي لا يسمح لها بذلك تحت أي بند من بنود قوانينه ومواثيقه، بل حتى من الناحية العملية فإن قوات دول هذه المنظمة ستكون عاجزة عن تحقيق أي نتيجة على الأرض بمعزل عن دعم فرنسي أو أمريكي، وستزيد الطين بلة وتعقد الأزمة بدلاً من حلها عبر تدخلها المحكوم بالفشل مسبقاً في إعادة رئيس نبذه أكثر من 80% من شعب النيجر إلى السلطة.

أما الدول الأوروبية فتقوم الآن بعزل فرنسا المصّرة على نهجها غير العقلاني وغير المقبول، بينما تدعي فرنسا أن الأوروبيون موافقون على تدخلها بحجة متابعة عمليات ما سمته “مكافحة الإرهاب في إفريقيا” رغم أنها فشلت فشلاً ذريعاً في عملية برخان، فبدلاً من مكافحة الإرهاب قامت بإدارة الصراع مع تنظيمات الإرهاب وعملت على تكاثرها في منطقة الساحل الإفريقي لتحقق غايتها في إيجاد موطئ قدم ثابت لقواتها. ويبدو أن فرنسا أيضاً تحاول التشويش على جهود الوساطة الإفريقية – الإفريقية وعلى رأسها الجزائرية التي طرحت مبادرة للحل وقام وزير خارجيتها بجولة في المنطقة لتطويق الخلاف وتقريب وجهات النظر، لكن باريس على ما يبدو أزعجها طرح الجزائر رغم اجتراحه أفضل الحلول لإنهاء أزمة جميع الأطراف سواء لجهة المجلس، أو حتى لجهة فرنسا، عبر البحث عن تنازلات وتفاهمات بين الجميع لإبعاد شبح التوتر والانقسام في المنطقة، وما يترتب عليها من إرهاب وهجرة وانفلات أمني قد يصل مداه حتى أوروبا، والمجلس من جهته قَبل مبادرة الجزائر، محدداً مهلة شهر للدراسة والتعديل في بعض البنود.

أثبت ماكرون أنه يشبه الطقس الأوروبي، فهو يفقتد لخط واضح لسياسته الخارجية ليس فقط بالملف الإفريقي، بل كرر ذلك سابقاً مع الجزائر ومع الصين وحتى مع الولايات المتحدة، إذ يفاوض على شيء ثم يقول بعكسه بعد وصوله إلى باريس مباشرةً، وهذا الوضع سيزيد من ضحالة أزمات فرنسا التي لن تسكت طويلاً على تواجد مثل هذا الشخص في السلطة، وهو الآن يلقى انتقادات حتى من ساسته وقادة جيوشه الذين طالبوه مراراً وتكراراً بتغيير طريقته بالتعامل مع القارة السمراء تحت طائلة نبذ بلاده خارجها بلا رجعة، كونها لا تملك تصور واضح وثابت في سياستها للخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، وأصبحت فاقدة للتوازن نتيجة تتالي الصفعات الإفريقية وهذا باعتراف جميع وسائل الإعلام الفرنسية.

إن ما يحصل يثبت يوماً بعد يوم زيف إدعاءات الإدارة الفرنسية بأنها غيرت سياساتها ونهجها الاستعماري، ومزاعمها بأن ذلك تحقق منذ وصول ماكرون إلى الحكم، بل أصبحت تلوح بالعودة إلى سياسة الاحتلال المباشر لفرض إرادتها على دول يفترض أنها مستقلة، لكن المؤكد أنها ستحقق المزيد من الفشل أمام حراكات الشعب الإفريقي الرافعة للرايات روسيا والمطالبة بمساعدتها في إقامة التنمية السياسية وإرساء الأمن والأمان في بلاد طالت عذابات شعوبها.