صبرا وشاتيلا.. ازدواجية معايير وعدالة دولية عرجاء
د. معن منيف سليمان
“صبرا و شاتيلا” مخيمان فلسطينيان في لبنان اقترف الغزاة الصهاينة بقيادة مجرم الحرب “أريئيل شارون” فيهما مجزرة تعد من أبشع وأفظع المجازر الجماعية التي نفذها العدو الصهيوني ضد الشعب العربي الفلسطيني، وقد استمرت هذه المجزرة ثلاثة أيام ما بين 16 – 18 أيلول 1982، سقط نتيجتها ما بين 3000 – 3500 رجل وامرأة وطفل من أصل عشرين ألف نسمة كانوا يسكنون المخيمين وقت حدوث المجزرة. وفيما تمر اليوم الذكرى الثلاثون للمجزرة، لا تزال صورة الأطفال والنساء والشيوخ والرجال الذين تم قتلهم، أو تغييبهم، بوحشية حاضرة في وجدان الفلسطينيين وأحرار العالم، وستظل كذلك طالما أن الجناة لا يزالون طلقاء لا يحاكمون كمجرمي حرب يستحقون العقاب المناسب.
كان قادة جيش الاحتلال الصهيوني آنذاك، وعلى رأسهم “أريئيل شارون ” رئيس وزراء العدو السابق الذي شغل منصب وزير الدفاع، و”رفائيل إيتان” رئيس الأركان هم من خطط وصمم وأشرف وشارك في هذه المجزرة البشعة، وقد أثبتت الوقائع أن هذه المجزرة لم تكن وليدة يوم وليلة، لكنها جاءت منسجمة مع المخطط الصهيوني منذ اليوم الأول لغزو لبنان عام 1982، وذلك بهدف قتل روح المقاومة لدى الفلسطينيين ودفعهم إلى الهجرة خارج لبنان، إضافة إلى تأجيج الفتن الداخلية في لبنان، ثم الانتقام من الفلسطينيين الذين صمدوا في مواجهة آلة الحرب الصهيونية خلال ثلاثة شهور من الصمود والحصار الذي انتهى بضمانات دولية بحماية سكان المخيمات العزل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، لكن ذلك لم يحل دون مواجهة الأبرياء مصيرهم قتلا وذبحا وبقرا للبطون، لا بل الاغتصاب ثم القتل.
ففي أوج الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية، قامت بعض الميليشيات اللبنانية المرتبطة بإسرائيل، قدر عددها بإثني عشر ألف مسلح، باقتحام المخيمين بحراسة إسرائيلية حيث قاموا بذبح عدد كبير من سكانهما، من نساء وأطفال وشيوخ، وتحدثت بعض المصادر عن استشهاد “3000 – 3500” بين طفل وامرأة وشيخ وشاب، فيما تحدثت مصادر فلسطينية عن استشهاد أكثر من اثني عشر ألف فلسطيني، فيما أفاد أفراد بعثة الصليب الأحمر التي كانت تنتشل جثث الضحايا، أنهم يسجلون المزودين في جيوبهم بأوراق ثبوتية، ولا يتم تسجيل من كانوا مجهولي الهوية.
لقد فاجأ القتلة سكان المخيمين الآمنين، واندفعت أبواب البيوت بقوة، ودخلوا يحملون بأيديهم السواطير والفؤوس والأسلحة الرشاشة، واندفعوا تجاه أفراد العائلة تلو الأخرى، وانقضوا عليهم قبل أن يستيقظوا من دهشتهم، ورافقت ذلك كله الجرافات التي تهدم البيوت على رؤوس أصحابها، ثم بدأ دور الرصاص لإنجاز المجزرة بيسر وسرعة. وكان الطوق الإسرائيلي مساء الخميس 16/9 قد أحكم بشدة على المخيمين، وأطلقت قنابل الإنارة طيلة ليلة الخميس – الجمعة”16-17/9/1982 وكانت وحدة المدفعية الإسرائيلية في بيروت تطلق قنبلة إنارة واحدة كل دقيقتين لإنارة المخيمين لأفراد الميليشية اللبنانية. وشاركت في هذه المجزرة أكثر من “150” دبابة صهيونية، و”100″ مدرعة، أسهمت في محاصرة المخيمين وقد هنأ شارون آنذاك، جميع القتلة بقوله:” إني أهنئكم، فقد قمتم بعمل جيد ورائع”.
وذكر أن هناك عدداً كبيراً من المفقودين خلال هذه المجزرة، قدرت عددهم وكالة الصحافة الفرنسية بأكثر من “2000” مفقود، والمفقودون هم كل الذين اقتيدوا في الشاحنات إلى جهة مجهولة، وكتبت صحيفة ” نيويورك تايمز” تقول إن الأوساط الدبلوماسية الأمريكية تخشى أن يكونوا قد نقلوا إلى الجنوب ليذبحوا هناك. ويسود الاعتقاد أن نحو ربع الضحايا كانوا لبنانيين أما الباقون فهم من الفلسطينيين.
اضطرت ردات الفعل الدولية الكيان الصهيوني الذي كانت قواتها تحتل بيروت، إلى إنشاء لجنة للتحقيق في المجزرة برئاسة “إسحق كاهانا” رئيس المحكمة العليا، وحدد مجلس الوزراء الصهيوني مهمة تلك اللجنة بقوله إن المسألة التي ستخضع للتحقيق هي جميع الحقائق والعوامل المرتبطة بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها وحدة من “القوات اللبنانية” ضد السكان المدنيين في مخيمي صبرا وشاتيلا، فانطلق التحقيق مستنداً إلى تحميل “القوات اللبنانية” المسؤولية – من دون غيرها – عن المجزرة، ومستبعداً المشاركة الصهيونية فيها، وأيضاً مشاركة أطراف أخرى لبنانية، ولذا كان متوقعاً أن تأتي نتائج التحقيق عن النحو المعلن آنذاك، مكتفياً بتحميل الصهاينة مسؤولية “الإهمال” أو “سوء التقدير” !!!
كما خلصت اللجنة بعد شهور إلى أن شارون المعروف بمسؤوليته المباشرة عن مجازر سابقة كـ قبية (1955) ولاحقة كـ مخيم جنين (2001) مسؤول بشكل غير مباشر عن صبرا وشاتيلا, لأنه وجه المليشيات اليمينية. واضطر شارون للاستقالة من منصب وزير الدفاع وتوارى عن المسرح السياسي لسنوات, لكنه عاد مطلع عام 2001 أقوى مما كان عندما فاز حزبه في الانتخابات وأصبح رئيسا للحكومة.
وعلى الرغم من أن لجنة التحقيق الدولية التي تشكلت للتحقيق في المجزرة حملت الجانب الإسرائيلي المسؤولية القانونية عن المجزرة كون “إسرائيل” قوة احتلال كانت تسيطر على منطقة المذابح وبالتالي فهي مسؤولة عن حماية السكان طبقاً لاتفاقية جنيف لعام 1949 التي وقعت عليها “إسرائيل” وأصبحت ملزمة لها. إلا أنه لم يتم ليومنا هذا جلب أي من المجرمين المباشرين وغير المباشرين أمام العدالة. ولقد جرت محاولات عربية وأخرى دولية غير حكومية لمحاكمة هؤلاء في لاهاي وأماكن أخرى من العالم، إلا أنها لم تنجح.
لقد كشفت مجزرة صبرا وشاتيلا حقيقة العدالة الدولية “العرجاء” التي تتحكم بها الدول الكبرى في العالم، وهي حقيقة تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم. ذلك أن الدول التي حرصت على محاكمة حكام يوغسلافيا السابقين بتهم ارتكاب جرائم حرب هي نفسها التي تمنع محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين رغم توفر كل الأدلة القانونية التي لا لبس فيها على تورطهم في إعطاء الأوامر والإشراف على التنفيذ المباشر، وعلى رأس هؤلاء “أريئيل شارون”، الذي كان حينها وزيراً للدفاع وكان يراقب مجريات المذبحة من فوق أحد الأبنية المشرفة على المخيمين ما يكذب الادعاءات الإسرائيلية أن التنظيمات اللبنانية هي التي ارتكبت المذبحة بوحشية وسادية قل نظيرهما .
إن ازدواجية المعايير التي تمارسها الدول الكبرى هي التي تركت جزاري صبرا وشاتيلا طلقاء، وهي التي تركتهم مرة أخرى طلقاء بعد مجزرة مخيم جنين، حتى أن الأمم المتحدة لم تتجرأ على إجراء تحقيق حول ما جرى ما يكشف شللها، نتيجة سيطرة القوى الكبرى عليها والتي تنصب نفسها شرطياً على العالم، بذرائع مختلفة، مع أنها هي التي ترعى أكبر إرهاب في العالم “إسرائيل” وتمارس الاحتلالات المباشرة وغير المباشرة في أفغانستان والصومال ولبنان وتسوغ إجرام المجموعات الوهابية الإرهابية في سورية، وتدعم المشروع الصهيوني ومجازره الوحشية التي لم تكن صبرا وشاتيلا إلا نموذجاً عنها.