“إعلان مقتل الدكتور علي”.. في قراءة نقدية
آصف إبراهيم
يُعَرّف النقد أنّه دراسة الأعمال الأدبية وتفسيرها وتحليلها ومقارنتها بغيرها بغرضِ الحكم عليها، وبيان قيمتها الفنية ومكانتها بين الأعمال الأدبية الأخرى، وتُسهم وظيفة النقد الأدبي من خلال تفسير ما في النص من جماليات، في خلق ذوق أدبي لدى الكتاب أولاً، ولدى المتلقين ثانياً، وتشكيل أذواقهم الفنية وتربيتها، وفتح المجال للمتلقي لالتقاط الأسباب الواقفة وراء جماليات النص الأدبي، وبالتالي الحكم على النص الأدبي بالجودة أو الرداءة، والقبول والاستحسان أو النبذ والرفض.
لكن ما نراه اليوم في الندوات والملتقيات الأدبية التي تعقد تحت عناوين قراءات نقدية في نصوص أدبية على اختلاف أنواعها، هل يحقق شروط النقد الموضوعي؟ أم أنه يبقى أسير المجاملات والمحاباة والإطراء المبالغ فيه لحد الاستفزاز لعقل المتلقي المثقف؟
رغم ضرورة الالتزام بالموضوعية وأهميتها في وضع النتاج الإبداعي الأدبي على السكة الصحيحة والنأي به عن الاستسهال، هناك من يجعل من نص متواضع، مثلا، تحفة أدبية قل نظيرها لا تقل أهمية عن رائعة ماركيز “مئة عام من العزلة”، أو “بؤساء” هيغو، أو “جذور” اليكس هالي، أو شيخ إرنست همنغواي، أو مدن عبد الرحمن منيف المالحة، و”قواعد العشق الأربعون” لـ إليف شفاق التركية على سبيل المثال. وهذه الظاهرة المشبعة بالمجاملات باتت استعراضاً شبه يومي على منصات المراكز الثقافية وقاعات المؤسسات الأدبية.
وقبل أيام كنا على موعد مع قراءة نقدية في رواية الدكتور نزيه بدور”إعلان مقتل الدكتور علي”، الصادرة عام ٢٠٠٦، قدمها الناقد محمد رستم في قاعة سامي الدروبي في المركز الثقافي العربي بحمص. وبغض النظر عن أهمية هذه الرواية ومكانتها الأدبية شكلاً ومضموناً، فإن الناقد رأى فيها نداً لأهم الروايات العالمية، ولم يجد فيها مثالب سوى تسمية اليهود بدلاً من الصهاينة، و”إسرائيل” بدلاً من العدو الصهيوني.
تحكي الرواية قصة الدكتور علي الذي ولد في قرية عين فيت بالجولان، ونال درجة الدكتوراه بالمعلوماتية من روسيا، وعندما عاد إلى وطنه قوبل بقلة اهتمام فيقرر السفر إلى ليبيا كإعارة من أجل العمل، لكنه يموت هناك دهساً بسيارة تقودها إمرأة مخمورة، فيعود ليدفن في وطنه دون أية مراسم تليق بقامة علمية مهمة. وفي سياق ذلك، يعرض النص سيرة جيلين من المجتمع السوري بأحلامهما وآمالهما على المستوى الشخصي والقومي. وكذلك خيبة الأمل التي واجهها الإنسان السوري عندما وقف وجهاً لوجه أمام كشف حساب العمر.
كتبت الرواية بأسلوب تجريبي يعتمد على تعدد الأصوات والأزمنة واللعب بالزمن، كما يستخدم المونولوج والحلم ومذكرات البطل المكتوبة، ويستخدم تقنية الخطف خلفاً عندما يبدأ أحداث الرواية بموت بطلها.
يبدأ الناقد محمد رستم قراءته من عتبة العنوان الذي يبدو كمجرد إعلان صحفي إخباري، لكن الكاتب يدخل العنوان في الرمزية من خلال كلمة مقتل التي تشير إلى أن هناك قاتلا، مع أن الدكتور علي مات دهساً، ومع أن الدهس هو قتل بالواقع، إلا أن الناقد رستم يري في الكلمة رمزاً إلى مقتل الدكتور علي حين لم يجد في وطنه مردوداً مادياً يكفل له العيش بكرامة، وحين تعرض للقتل البطيء عندما لم يجد من يقدر مكانته العلمية، وحين طحنته صخرة الانكسارات وخيبة الآمال، ومقابلته بالاحتقار، والتهميش، لقد قتل الدكتور علي – برأي رستم – مراراً بعد موته حين قضى في هذا الشكل المجاني الرخيص.
ويشير رستم إلى الاستعراض البانورامي العميق للعلاقات الاجتماعية وتفاعلها مع القضايا السياسية في حقب من الزمن بكاميرا ثلاثية الأبعاد على مدى ثلاثة أجيال.
ومع أن الرواية تأخذ شكل السيرة الذاتية، لكنها تطفو على بحر من الواقعية الاجتماعية ضمن سياق سردي يطفح بالحنين، أدخلها الكاتب فيما يسمى بالواقعية السحرية عندما هدم الجدار بين الواقع والخيال وقوض الحاجز بين الموت والخيال.
ويلحظ رستم كيف برع الكاتب في استدعاء مفهوم البطل الضحية وخلق الفضاء المناسب لها، وأجاد في تسليط الضوء على شخصية الدكتور علي، فبدت واضحة بكل مشاعرها ورغباتها.
تصلح الرواية بالنسبة للناقد رستم لأن تكون سجلاً توثيقياً لمرحلة من مراحل مجتمعنا، كما استطاعت أن تثير الغضب على مجتمعاتنا لأنها سقتنا المرارة من كأس الوجع، ولاسيما غضب المثقف الذي دفع فاتورة الألم الكبرى، شكلت المروية إدانة صارخة لواقع راهن، لكن بمخاتلة أدبية وبشكل موارب غير مباشر. وحرص الكاتب على واقعية روايته من خلال ذكر أسماء أماكن وتواريخ واقعية، وتخلص بسلاسة سرده ومتانة حبكته من الوقوع في مطب المباشرة المملة والواقعية السطحية الفجة، قدم رواية بتألق سردي ينحو جهة الشعرية والوصفية الجميلة.
قدم الناقد محمد رستم في هذه الندوة قراءة نقدية تحليلية احترافية متقنة، رغم تأكيده في بداية القراءة على انطباعية ما سيقرأ، ليبرر لنفسه الهروب من احراجات تناول المثالب.
يذكر أن كاتب الرواية من مواليد عام 1961.. دكتوراه في الهندسة المدنية.. عضو اتحاد الكتاب العرب – جمعية القصة والرواية. من مؤلفاته المطبوعة: “على شغاف حب” (قصص)، “إعلان مقتل الدكتور علي”.