حرب أوكرانيا تكتب نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة
هيفاء علي
يمر الاقتصاد العالمي بمرحلة شديدة الصعوبة والتعقيد، حيث يواجه مجموعة من التحديات نتيجة لنقص المدخلات الرئيسية للإنتاج، وتراجع الصناعات التحويلية لدى العديد من البلدان مع نقص الإمدادات، إلى جانب إطلاق الطلب المكبوت وانتعاش أسعار السلع الأولية، مما أدى إلى زيادات غير مسبوقة في معدلات التضخم وتراجع معدلات النمو، وتزايد هشاشة المؤسسات المالية غير المصرفية في ظل ارتفاع الديون إلى مستويات قياسية، ووصولها إلى 226 تريليون دولار نهاية العام الماضي. كما أن ارتفاع أسعار الفائدة العالمية يؤدي إلى اضطراب الأسواق المالية، وارتفاع تكلفة التمويل، ومن ثم زيادة المخاطر المالية، هذا فضلاً عن الاختناقات المرورية لحاويات الشحن التي أصبحت غير قادرة على السير عبر الطرق المعتادة، الأمر الذي أثر على مصروفات الشحن بصورة كبيرة.
ومما زاد من تعقيد الموقف الحرب في أوكرانيا، خاصة وإنها تقع بين دولتين غاية في الأهمية من الناحية الاقتصادية، حيث إنهما من الدول المهمة في مجال السلع الزراعية عموماً، والمنتجات الغذائية على وجه الخصوص، إذ تمثلان أكثر من ربع تجارة القمح العالمية، وخمس مبيعات الذرة، و80 % من صادرات زيت عباد الشمس، فضلاً عما تملكه من معادن وخامات، ناهيك عن كون روسيا تعد المورد الأساسي للغاز الطبيعي والطاقة إلى أوروبا.
كل هذه المؤشرات وغيرها تشير إلى أن الأحداث الجارية ستؤجج نار التضخم من جهة، وتؤدي إلى انخفاض معدلات النمو العالمي من جهة أخرى. وما يهم هنا أن هذه الحرب قد كتبت النهاية لحقبة ما بعد الحرب الباردة، وتعد بمثابة الإعلان عن انهيار النظام الحالي، والقائم على أساس “توافق واشنطن” بآلياته ومؤسساته، وبدء البحث عن نظام جديد أكثر إنسانية، وأقل وحشية. ومن ثم أصبح من غير المحتمل العودة مرة أخرى للحديث عن العولمة المفيدة للأطراف، والتي بني على أساسها النظام الاقتصادي، حيث تم تقويض المبادئ الأساسية للتصنيع العالمي من خلال سلاسل القيمة المرتبطة بعدة دول، ووضعت كل دولة مصلحتها الوطنية أولًا. كما ازدادت درجة عدم اليقين، فالتغييرات الجارية والمتلاحقة على الساحة العالمية لم تعد تدور، كما كانت من قبل، وفقاً لقواعد وأسس محسوبة أو يمكن توقعها.
وبحسب خبراء الاقتصاد، سيستمر الاقتصاد العالمي في الاعتماد على النفط على مدى العقد المقبل، حيث لا تزال الطاقة البديلة تتطلب إعانات ضخمة لتكون قابلة للاستمرار في البلدان النامية، وتثير ممارسة التكسير الهيدروليكي مخاوف بيئية، كما أن جمود الأصول النفطية لن يسمح للشركات الكبيرة بالتخلي عن استثماراتها، كالمعدات والبنية التحتية الحالية.
وهكذا، تحذر وكالة الطاقة الدولية، في تقرير لها بعنوان “آفاق استثمار الطاقة العالمية” من أنه سيكون من الضروري استثمار 48 ألف مليار دولار بحلول عام 2035 لتغطية الاحتياجات العالمية المتزايدة من الطاقة.
تمتلك الدول المتقدمة الرئيسية احتياطيات نفطية إستراتيجية مخصصة حصرياً للاستخدام في المواقف الحرجة لضمان الاستهلاك المحلي لبضعة أشهر، لكن وفقاً لوزارة الطاقة الأمريكية، عانت احتياطيات هذا البلد من انخفاض مفاجئ بنسبة 20٪. وبالمثل، كانت المخزونات العالمية ستعاني من تراجع في الربع الثاني قدره 57 مليون برميل من المخزونات العالمية، وهو ما تسبب، إلى جانب خفض الإنتاج المتفق عليه بين روسيا وأوبك حتى نهاية عام 2024 وغياب حل للملف النووي الإيراني، في أزمة يومية، حيث تم تسجيل عجز قدره 1.5 مليون برميل يومياً عام 2023 و”قلق العرض” الخطير لزيادة مخزونات الدول، مما دفع خام برنت إلى الارتفاع إلى 90 دولاراً للبرميل يومياً.
وإذا استمر سعر النفط الخام في الارتفاع إلى 100 دولار، فمن الممكن أن تحدث أزمة نقص عالمي، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف نقل البضائع والأسمدة الزراعية. وهذا، جنباً إلى جنب مع حالات الجفاف والفيضانات غير المعتادة في سلال الخبز العالمية التقليدية، وما يترتب على ذلك من تطبيق القيود على صادرات السلع الأساسية من هذه البلدان لضمان اكتفائها الذاتي، ما من شأنه أن يؤدي إلى نقص المنتجات الزراعية في الأسواق العالمية، وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وما ينتج عن ذلك من أزمة الغذاء العالمية.
وبالمثل، فإن ارتفاع سعر النفط الخام إلى 100 دولار سيكون له أثر جانبي يتمثل في زيادة معدلات التضخم في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع ما يترتب على ذلك من زيادة في أسعار الفضة من قبل البنوك المركزية، وما يتبع ذلك من اختناق اقتصادي لعدد لا يحصى من السكان في العالم. وهكذا، فإن الدين العام، الذي، إلى جانب الركود الاقتصادي الذي يهدد الاقتصادات الرائدة مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يخلق في نهاية المطاف سيناريو من الركود التضخمي المزمن في الاقتصاد العالمي.