الفيضانات الليبية تظهر أساس الشوفينية الأمريكية
عناية ناصر
تعرّضت ليبيا للفيضانات الناجمة عن العاصفة “دانيال”، حيث تشير آخر أرقام الإحصائيات إلى وفاة ما لا يقلّ عن 11300 شخص، في كارثة وصفها المجتمع الدولي بالمأساة الإنسانية، وأشار العديد من المراقبين إلى الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات عاجلة للتخفيف من الآثار الضارة الناجمة عن تغيّر المناخ. ولكن هناك عنصراً آخر لم يتمّ مناقشته في هذا الأمر، وهو الدور الذي لعبه حلف شمال الأطلسي أثناء غزوه لليبيا قبل 12 عاماً، حيث طلبت الولايات المتحدة، في آذار 2011، من مجلس الأمن فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان المزعومة من قبل حكومة الزعيم السابق معمر القذافي. وامتنعت الصين والهند والبرازيل وروسيا وألمانيا عن التصويت خلال تلك الجلسة، لكن بعض الدول، بما في ذلك روسيا، حذّرت من أن واشنطن تستخدم الأزمة لتنفيذ عملية كلاسيكية لتغيير نظام الحكم في ليبيا، وكانت على صواب في ذلك، حيث قصفت قوات الناتو البلاد لمدة ثمانية أشهر، وأدى ذلك إلى تفاقم الوضع الإنساني في البلاد بشكل كبير، ما أدى إلى إغراق البلاد في الفقر والاضطرابات السياسية.
وفي تقريره لمجلة “إيكولوجيست” في عام 2015، أشار الصحفي نافذ أحمد إلى أن قوات الناتو قصفت عمداً إمدادات المياه في ليبيا، بما في ذلك نظام الري الوطني المعقد الذي تمّ بناؤه بعناية وصيانته على مدى عقود للتغلب على نقص المياه. وأشار التقرير إلى أن البنية التحتية المدنية في البلاد، بما في ذلك مرافق المياه، قد دُمّرت. وفي حين أن التقرير لم يخض في التفاصيل حول الهياكل الرئيسية المتعلقة بالفيضانات الحالية، مثل السدود، وذلك على الأرجح لأن هذه لم تكن مشكلة خطيرة في ذلك الوقت في بلد صحراوي في المقام الأول، إلا أنه لا يمكن استبعاد هذا الأمر. إن حجم الأضرار التي ألحقها حلف شمال الأطلسي خلال حملة عام 2011 يتطلّب المزيد من التحقيق والتعويضات التي يتوجّب عليه دفعها. وفي الواقع، هناك سابقة لهذا الوضع، ففي عام 1986، خسرت الولايات المتحدة قضية أمام محكمة العدل الدولية ضد نيكاراغوا بشأن “الاستخدام غير القانوني للقوة” ضد الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى، وشملت الانتهاكات المحدّدة الهجمات على البنية التحتية المدنية والسفن البحرية في نيكاراغوا، وزرع الألغام في موانئ البلاد، وغزو المجال الجوي لماناغوا، ودعم جماعات حرب العصابات المعروفة باسم “الكونترا” ضد الحكومة الوطنية، وحتى يومنا هذا، تدين الولايات المتحدة بتعويضات للبلاد، لكنها ترفض الدفع أو حتى الاعتراف بشرعية الحكم.
علاوة على ذلك، فإن العقوبات التي فرضها الغرب بقيادة الولايات المتحدة أعاقت بشدة التعافي الاجتماعي والاقتصادي في ليبيا. وحتى اليوم، لا تزال العقوبات تشكل تهديداً خطيراً للاقتصاد الليبي، كما أن عملية إعادة الإعمار تتقدم ببطء شديد. بالإضافة إلى ذلك، فإن فشل الولايات المتحدة والغرب على المدى الطويل في الوفاء بالتزاماتهما الأخلاقية الدولية والتزاماتها المتعلقة بالمساعدات، جعل من الصعب على ليبيا إعادة البناء داخلياً.
وبصفته المسؤول عن الوضع الفوضوي في ليبيا ومروّج خارجي مهمّ للصراعات، لم يتحمّل الغرب بقيادة الولايات المتحدة مسؤولياته والتزاماته الواجبة في مساعدة الشعب الليبي، فعلى سبيل المثال، بعد وقوع الكارثة، لم تقدّم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، باعتبارها الطرف الخارجي الأكبر المسؤول عن المشكلة الليبية، سوى قدر ضئيل من المساعدة، حيث قدمت الولايات المتحدة مليون دولار فقط كمساعدات إنسانية، ووعدت المملكة المتحدة بتقديم مليون جنيه إسترليني كمساعدات!
لقد التزمت وسائل الإعلام الصمت بشأن الفيضانات التي حدثت في ليبيا، والتي أدّت إلى عدد كبير من الضحايا. وإن دلّ ذلك فإنه يدلّ أولاً وقبل كل شيء على التجاهل الأساسي للحياة البشرية، وكذلك إلى ذلك النوع من التطبيق الانتقائي للإنسانية الذي يشكّل أساس الشوفينية الخطيرة. وبينما ينعي المجتمع الأمريكي مواطنيه الذين سقطوا في أحداث الحادي عشر من أيلول، إلا أنه يبدو أنه غير مبالٍ بالمعاناة المستمرة لضحايا الإمبريالية الأمريكية. في الآونة الأخيرة، أعلن الرئيس جو بايدن عن جولة جديدة من المساعدات لقدامى المحاربين في حرب فيتنام الذين تعرضوا للسلاح الكيميائي المعروف باسم “العامل البرتقالي”، ولكن حتى عندما بدأ رحلة إلى فيتنام، لم يذكر حتى الناس في الدولة الآسيوية الذين لا زالوا يعانون من الإعاقة والعيوب الخلقية.
إن الإمبراطورية مبنية على النفاق، وهي تلوح بإصبعها حول القيم المفترضة، وتتجاهلها عندما تناسب مصالحها الخاصة، الأمر الذي يمثّل قمة السخرية، لذلك يجب محاسبة الولايات المتحدة على جرائمها الكثيرة التي اقترفتها بحق الأبرياء.