“البريكس” عملاق التحولات الجيوسياسية
ترجمة: عائدة أسعد
يتجاهل عدد كبير من الخبراء الغربيين جانباً أساسياً من التحليل المنطقي للظواهر التي يمرّ بها العالم، كما أن عدداً كبيراً منهم لا يهتمون بتفسير تلك الظواهر بل بصياغتها بما يتناسب مع أيديولوجيتهم وسياساتهم، وما يشهده العالم منذ شباط عام 2022 هو تسارع لعملية التحوّل المنهجي والجيوسياسي للنظام الدولي الذي بدأ عام 1945 وأُعيدت صياغته عام 1989 مع انتهاء الخلاف الأيديولوجي بين واشنطن وموسكو.
لقد برزت هيمنة الولايات المتحدة مع نهاية الحرب الباردة بعد انحدار دام لفترة طويلة، ولكن على مدى العقود الثلاثة الماضية، عادت جهات فاعلة دولية جديدة إلى الظهور، وظهرت جهات فاعلة أخرى.
كان ظهور “البريكس” في القرن الحادي والعشرين أول علامة فارقة في عملية تجديد الديناميكيات الرأسمالية الدولية، وخاصةً لجهة تسليط الضوء على التباين الهائل الموجود بين أعضائها باستمرار من قبل النقاد الغربيين حتى بدأ المحور الأوروبي الأطلسي يفقد أهميته تدريجياً. وكان المعلم الثاني في تغيير الديناميكيات الاقتصادية والجيوسياسية في دورة التراكم النظامية الحالية التي تقودها الولايات المتحدة هو عبر إنشاء بنك التنمية الجديد في عام 2014، أو ما يُسمّى بنك البريكس ليشكّل البنك المذكور حدثاً تاريخياً في توفير مصادر أخرى للموارد اللازمة لتنمية البلدان التي يطلق عليها اليوم الدول الناشئة التي تسعى إلى تحقيق النمو الاقتصادي على أسس أكثر عدالة.
لقد حافظ الغرب على الهيمنة المالية في الرأسمالية الدولية منذ بريتون وودز، حيث حدّد وتيرة تنمية ما يُسمّى بالعالم الثالث، وربطها بالحصول على الدولارات والقروض لتعزيز التنمية. ومن خلال تحليل مدى عدم منطقية أن يكون لدى أي بلد عملته كاحتياطي عالمي، وكيف يمكن استخدامها كسلاح اقتصادي ضد دولة أو مجموعة من الدول، كان الأعضاء المؤسّسون لمجموعة البريكس يخطّطون للهروب من هذه الهيمنة الاقتصادية والجيوسياسية لمصلحتهم في بعض الأحيان، لكن أدّى الصراع في أوكرانيا إلى تسريع هذه العملية.
كما وقع الحدث التاريخي الثالث في عملية بناء عالم متعدّد الأقطاب دون أولوية المحور الأوروبي الأطلسي في قمة البريكس الخامسة عشرة في جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا. وبالإضافة إلى التأكيد على الالتزام بالتعددية القطبية، قامت دول البريكس بتوسيع عدد الأعضاء ومناطق نشاطهم الجغرافية، ويمثل تحول البريكس وتوسعه، مع إضافة المملكة العربية السعودية والأرجنتين ومصر والإمارات العربية المتحدة وإثيوبيا وإيران، علامة مهمّة على الديناميكيات الجغرافية الاقتصادية الجديدة للرأسمالية الدولية في القرن الحادي والعشرين.
ومن منظور إحصائي تُعتبر مجموعة البريكس عملاقاً جيوسياسياً واقتصادياً، فمن بين أكبر عشرة منتجين للنفط في العالم، هناك ستة أعضاء في المجموعة، ويمثلون 42% من التجارة العالمية. وبالإضافة إلى ذلك، احتوت 72% من العينات على معادن أرضية نادرة ومن الناحية الديموغرافية، ارتفعت نسبة هذه المجموعة من 41% إلى 46% من سكان العالم، كما سيبلغ الناتج المحلي الإجمالي بتعادل القوة الشرائية 36% من الإجمالي العالمي، وهذا يعني بروز عظيم للبريكس. وقد أصبحت الأرجنتين قوة في مجال استخراج الليثيوم، ومع دخول أمريكا الجنوبية التي تملك 13 مشروعاً قيد التطوير متقدماً بفارق كبير عن أي مشروع آخر إلى البريكس، أصبحت المجموعة ثلاثة من أكبر خمسة منتجين لليثيوم في العالم، إلى جانب الصين والبرازيل.
وعلى الرغم من الآلات الأيديولوجية والمعلوماتية التي يستخدمها الأميركيون الشماليون والأوروبيون لمحاولة التعتيم على اللحظة التاريخية الحالية من خلال تحليلات متشائمة للغاية، فإن الواقع يظهر أن عملية الدمج الحالية لمجموعة البريكس لا رجعة فيها حتى مع وجود مشكلات عرضية بين الأعضاء.
لقد بات من المعروف أن واشنطن وبروكسل متردّدتان في قبول السيناريوهات الجيوسياسية والاقتصادية الناشئة، ومن المتوقع أن تمارس واشنطن كافة أشكال الضغط المباشر وغير المباشر لإفشال مجموعة البريكس، أو منع توطيدها، لذلك يتعيّن على بروكسل أن تستعيد بعض الاستقلالية في سياستها الخارجية بمواجهة الولايات المتحدة التي تستخدم الاتحاد الأوروبي كبيدق للحفاظ على مصالحها الجيوسياسية.
من الوهم أن يعتقد الغرب أنه قادر على وقف التحولات الجيوسياسية الجارية، وسيكون القليل من المنطق السليم بين الألمان والفرنسيين والبريطانيين مهماً جداً في هذا الوقت.