تحولات النظام الدولي وقمة العشرين في نيودلهي
ريا خوري
بعد قمة بريكس في جوهانسبرغ، انعقدت القمة الثامنة عشرة لمجموعة الدول العشرين في نيودلهي من جديد، لتؤكد الأهمية المتزايدة للاقتصاد والتبادل التجاري في العالم كمحدّد لتحالفات واصطفاف الدول وعلاقاتها فيما بينها ومواقفها من مجريات التحول الدولي. كذلك لتنبئ بأنّ العالم يتغيّر ويتداخل فيما بينه على الأساس الاقتصادي البحت، دون الاكتراث بالكثير من القضايا الجوهرية العالمية، وعدم إيلاء أي اهتمام لاعتبارات النظم السياسية وسيادة الدول.
وعلى هذا الأساس يتأكد يوماً بعد يوم وبشكلٍ متزايد الصعود المتسارع والقوي لمكانة الاقتصاديات الناشئة، لأن عالم اليوم لم يعد كما كان في السابق، وبالتحديد عالم ما بعد الحرب الباردة (1947- 1991) الذي كان العالم أجمع يعتبر في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية، أو تحت سيطرتها شبه الكاملة، أو بأقل العبارات وقعاً، ضمن زعامتها العالمية الوحيدة.
الجدير بالذكر أنَّ دول مجموعة العشرين الكبار، تأسّست عام 1999، وإذا كانت دول تجمع الـ(بريكس) ظهرت بخمس دول، تعتبر جميعها من خارج إطار دول الغرب الأوروبي، وتمثل دول الجنوب والشرق العالمي، فإن دول مجموعة العشرين الكبار تضمّ عشرين دولة من الشرق والغرب والجنوب، وهي حالياً تمثل نحو تسعة وسبعين بالمائة من حجم التجارة العالمية، ونحو ثلثي سكان العالم، وأكثر من أربعة وثمانين بالمائة من الناتج المحلي العالمي، وهي تضمّ الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى دول تجمع الـ(بريكس)، ومجموعة السبع الكبار في الاقتصاد العالمي، وهي تكاد تمثل الأمم المتحدة على الصعيد الاقتصادي، أي إنها على قدر كبير من الأهمية، لذا فإن قراراتها وقوانينها وما يتخلّل اجتماعاتها الدورية يعتبر مؤشراً مهماً على ماهية الطريق الذي يسير عليه العالم.
في قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في بالي في إندونيسيا بعد بضعة أشهر من اندلاع الحرب في أوكرانيا، حاول الرئيس الأمريكي جو بايدن أن يحاصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويدفع دول مجموعة العشرين الكبار لتأييد موقف الولايات المتحدة من تلك الحرب، لكن في قمة نيودلهي حدثت تغيّرات وتبدلات جوهرية ذات طابع سياسي، أهمها أن العديد من التجمعات الدولية باتت تحتلّ مكانة كبيرة تظهر بأنّ هيئة الأمم المتحدة لم تعد هي المكان الوحيد الذي يجمع العالم ويلتفّ حوله، كذلك بأن العالم لم يعد عالم القطب الوحيد– الأمريكي المسيطر والمهيمن على العالم، وأن اقتصادات أخرى غير تلك التقليدية بدأت تعكس حجمها الاقتصادي الكبير والمتصاعد في حقل تأثيراته الدولية، وهي تأثيرات كبيرة لا يُستهان بها، نقصد اقتصاديات مثل اقتصاد جمهورية الصين الشعبية، والبرازيل، والهند بعد أن كان عالم الكبار في الاقتصاد العالمي يقتصر على السبع الكبار فقط: الولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان، وبريطانيا، وإيطاليا، وكندا، وألمانيا.
لقد أظهرت قمة العشرين في الهند قوة ومكانة الجنوب الكوني الهائلة رافعاً رأسه، وخارجاً من دائرة التبعية للغرب الأوروبي وللولايات المتحدة على وجه التحديد، وقد أظهر البيان الختامي للقمة، بعدم إشارته صراحة للحرب الروسية– الأوكرانية، ما اعتبرته الدوائر السياسية العالمية ضربة للدول الغربية، وذلك بسبب عدم وجود إجماع عالمي على دعم أوكرانيا، وذلك على الرغم من إشادة مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، واعتبار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقف العشرين من المناخ العالمي كافياً وهو تعبير عن حجم القلق المبطن.
بالنظر إلى ما تضمّنه البيان الختامي لقمة العشرين الكبار، يعتبر بيان قمة الهند تراجعاً واضحاً وانكساراً حقيقياً لفكر الحرب الذي ترفع رايته واشنطن، بما يعني أنَّ العالم، وحتى دول الغرب الأوروبي باتت تضيق ذرعاً باستمرار الحرب في أوكرانيا التي استنزفت الغرب واقتصاده وطاقاته، وذلك لما تعكسه من آثار سلبية على الاقتصاد العالمي بشكلٍ عام، وأن تلك الحرب ما هي إلا محاولة من الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة السيطرة على العالم بأسره وإضعاف أوروبا الحليف الاستراتيجي له كي يبقى مسيطراً بكل قوته عليها، وهذا ما ترفضه أو ما لا تحبذه ولا تريده دول الجنوب، تماماً كما هي حال دول الشرق، أي روسيا والصين.
تختلطُ الأمور إذاً في السياسة الإستراتيجية العالمية، فجميع الدول تسعى إلى تحقيق مصالحها الذاتية المباشرة، ولم يعد بإمكان أحد أن يجبر الآخرين على أن يصطفوا إلى جانبه في تحقيق مصالحه، لمجرد الصداقات أو العلاقات الخاصة، وهذا تحوّل دولي كبير على المستوى العالمي اليوم.