زهير دباغ متألق بين النحت والتصوير
فيصل خرتش
ولد الفنان زهير دباغ في حلب عام 1952 (المدينة القديمة) واستيقظت لديه نوازع الرسم منذ كان طفلاَ، كان يسرق من جدَته أعواد الفحم من المنقل ويرسم على الجدران،والأطفال يجتمعون حوله مبهورين بما يفعله من رسوم، يثيرونه ليصنع من كتل الحوَار المرمية في خندق القلعة ليصنع منها أشكالاَ تدهش الصغار، ومن هنا بدأت لعبة الاكتشاف لعالم النحت، وقد أكَد هذه الموهبة عندما رآها معلمه في المدرسة وأثنى عليها، وعندما كبر وبدأ يتعرَف إلى العالم انتسب إلى مركز (فتحي محمد) للفنون التشكيلية في المدينة، فدرس فن النحت وشارك في أعماله النحتية وصنع القوالب لها وصبَها، وإخراجها بالحلَة الجديدة، وبدأ يبدي اهتماماً في تصوير اللوحة والكشف عن أسرارها، وظهرت بوادر إنتاجه من خلال المعارض الجماعية، وأيضاً في معارض طلاب المركز.
في عام 1972 سافر إلى دمشق لدراسة الفنون الجميلة، وانتمى لدراسة النحت والخزف في مركز الفنون التطبيقية فيها، حيث اكتسب المهارات العملية في فني النحت والخزف، مما ساهم في إغناء تجربته، وخلال دراسته في دمشق تعرَف على أوساط الفنانين والمثقفين وقد ساهم ذلك في بلور أفكاره وربط إنتاجه بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، كما إنه شارك في (بيناليكابروفو) للكاريكاتير في بلغاريا مما ساهم في بلورة مواقفه إزاء هذه القضايا.
في مطلع الثمانينيات عاد زهير إلى حلب وأنتج عدداَ من المنحوتات، وتوزَعت في الصالات، وكان أبرزها اللوحة الجدارية، وقد نفذها بالنحاس المطروق بمساحة أربعين متراً مربعاً على مسرح حلب الجامعي، وهي تؤلف عملا بارزاً في صيغ النحت الجداري المعاصر، بالإضافة إلى عدد من المنحوتات التي استخدم فيها: الجص والإسمنت والبرنز والفخار، ونفَذ الفنان بمادة السيراميك عدداً من الأعمال الجدارية، بعد أن اتخذ له محترفاً في قرية خان العسل التي تقع غربي حلب، وأنشأ فيها فرناً لشي الخزف والسيراميك.
والفنان زهير ينحو في إنتاجه نحو التعبيرين، من خلال تأكيده على القيم التشكيلية التي تعكس رؤيته للأشكال، وإحساسه بالجسد الإنساني في أوضاعه الأكثر حميمية، وهو يرى فيه تجسيداً لمعظم قضايا الإنسان وهمومه، فمن خلاله يرى أنَ هذا الجسد يستقرئ أبجديات هذا الكائن، فالترف والفقر والحب والكراهية والأمن والقلق وغيرها من الحالات تظهر بوضوح من خلال هذا الجسد، ومعظم النحاتين القدماء والمعاصرين يؤكدون رؤيته.
إنَ المسار التعبيري الذي انتهجه لم يكن صدفة، بل هو نتيجة مؤثرات متتالية في إنتاجه، فهو يصر على توافق المعطيات الجمالية والتعبيرية في منظومة أعماله النحتية، ومن يشاهد منحوتاته يلمس المؤثرات الوافدة التي دفعت بها الموجات المبكرة في فن النحت العالمي المعاصر، إنه يصر على اعتبار نفسه واحداً ممن يرغبون في أن يعيشوا عصرهم، ويتكلَموا بأبجدياته، فهو يسعى لهضم كلَ المعطيات الثقافية التي سبقته، لكنه يستخدم تعابير العالم الذي يعيشه لأنه الأقدر على توصيل أفكاره وهمومه وطموحاته، إنَه يوضح موقفه من التاريخ والحضارات ، ويستحضر قيم عصره، ، وهو ينظر إلى الإبداعات القديمة في عصرها باحترام شديد، إنَه يجد في أعمال (بيكاسو) النحتية فهماً صحيحاً للإفادة من النحت البدائي، كما يجد في أعمال (جواد سليم) فهماً أعمق وأوضح على الإفادة من النحت المحلي الموروث.
كانت المرأة والجسد الإنساني من أهمَ موضوعاته، لأنهما أقدر على حمل الطاقات التعبيرية بالصيغ الفنية، فجسد المرأة يحمل إمكانيات تعبيرية أشدَ طراوة وأكثر مرارة، ويمكن لهذا الجسد أن يكوَن جملة تعبيرية متكاملة.
إنه يحبَ الطين لأنَه يجد فيه طفولته، وشبابه ولعله يجد فيه شيخوخته، وكلَ العناصر التي يتشكل منها العمل تعتمد على الطين، وهو يلجأ إلى السطوح الخشنة، ويميل إلى الكتلة المتماسكة دون التخلي عن عنصر الفراغ، فهو لا يجد انفصالاً بين الفراغ والكتلة لأنهما يشكلان جملة واحدة لا يمكن أن تتجزأ، ومعظم شخوصه تميل إلى النحافة والتطاول، مما يتيح لها التعايش مع الفراغ والمساهمة في إظهار مكانته التعبيرية وإغنائه العمل الفني، كما إنَه استخدم اللون في بعض أعماله، ويعتبر الطبيعة المناخ الصحي لاحتضان أعماله، فالنحت عبر التاريخ لم تكن الأماكن المغلقة مقاماَ لوجوده، وأنَ السماء أفضل خلفية يمكنها أن تحيط به.
إنَ اهتمام الفنان بفن التصوير لم يغب عن اهتمامه ورغبته في التعامل مع اللوحة الفنية، لقد رسم اللوحة الزيتية التي تستوعب نزقه وتفريغ ما تحمله نفسه من شحنات متدفقة ممَا لا يتسنى لمنحوتاته توفيره، فالحياة التي يعيشها الفنان، بما فيها من ضغوط وضيق الوقت تجبره على الانصراف عن النحت إلى الصورة الزيتية، وقد وجد الفنان زهير نفسه مدفوعاَ نحو إفراغ ما يحمله من هموم وحزن في مساحة اللوحة والألوان، فأنتج عدداً وافراً من الأعمال الزيتية، وأقام لها معرضاً في صالة بلاد الشام بحلب عام 1992. ولعلَ ما ميَز تجربته حضور شخوصه الشفاف، وكأنَ الأشكال تذوب في عالم اللون، ويحول أن يدفع باللوحة على أنها مسطح ذو بعدين، إنَها بحث في مهمَة اللون وعلاقته بالخط من دون أن يحضر النحت إلى اللوحة، والموضوعات التي عالجها في لوحته، لم تكن بعيدة عن منحوتاته، فالإنسان هو المحور لديه، والقضايا الاجتماعية والإنسانية هي المادة التي تصدى لها بكثير من الفهم والشمولية، حيث تتجلَى في علاقة الإنسان مع الكائنات الأكثر التصاقاَ به، إنَ الأشكال ترتبط ببعضها عبر وشائج لونية وخطية متداخلة ومتناغمة، وتفرش أرضية اللوحة وأبعادها دون بدايات أو نهايات، ولطالما اندفعت الأشكال من أحد جوانب اللوحة ومضت في استعراضها الاحتفالي المتوَهج إلى خارج اللوحة، لتبدو بعض أجزائها وقد غاصت في مخيلة المشاهد، وهي تبرز مقدرة الفنان في التأليف التشكيلي الذي يستند إلى المعرفة الناضجة في خصائص الأشكال وبنيتها دون اللجوء إلى الهشاشة في تبسيطها، وتكتسي الأشكال حلَة لونية، مولدة حسَاً درامياً مفعماً بالحيوية، وفي بعض الأعمال يميل الضوء نحو العذوبة والرقة، مما يولَد جوَاً حالماً يتفق مع تعبير الوجوه المتأملة والأيادي الحانية، ويصور المرأة والأزهار ويسطع اللون عليها لتبدو وكأنها تبرز من عالم السحر، فتتهامس الأشكال وتذوب في لجة ضوئية فاتنة.
أقام الفنان في عام 2001 معرضاً في صالة الجسر بحلب، عرض فيه تجربة فنَية جديدة حيث أبعد الأشكال الإنسانية عن الظهور السافر واستعاض عنها بملامح إنسانية موحية عبر غلالة لونية برع الفنان في توظيفها لإيجاد علاقات بصرية تقترب من التجريد الإيحائي، وإذا كانت هذه التجربة تجسيداَ لطاقات الفنان زهير في مجال التصوير فهي تقف إلى جانب التجارب المتطوَرة والناضجة التي تتصدر الساحة التشكيلية السورية، ولا تقلَ أهمية عن تجربته الإبداعية في مجال النحت.