ليبيا ضحية غضب الطبيعة والناتو أيضاً
هيفاء علي
يبدو أنه لم يكن ينقص الليبيين سوى الكوارث الطبيعية، وانقضاض عاصفة مدمرة على شاكلة عاصفة “دانيال” عليهم، لتتفاقم معاناتهم اليومية جراء تفشي الفوضى والاقتتال بين الأطياف الليبية المختلفة من أجل الاستئثار بالسلطة وخيرات البلاد، وبالطبع كل ذلك جاء نتيجة العدوان البريطاني-الفرنسي اللا شرعي على ليبيا عام 2011، باستخدام الذرائع الإنسانية كغطاء للعدوان.
كتب الصحفي البريطاني جوناتان كوك، تحليله موضحاً أن عواقب السياسة الخارجية الحالية التي ينتهجها الغرب، والتي تم تسويقها على مدى عقدين من الزمن تحت عنوان “مسؤولية الحماية”، تتجلى في المأساة التي خلفتها الفيضانات في ليبيا، حيث لقي عدة آلاف من الأشخاص حتفهم أو فقدوا في ميناء درنة بعد انهيار سدين يحميان المدينة تحت تأثير العاصفة دانيال. كما تعرضت مساحات كبيرة من المساكن في المنطقة، خاصة في بنغازي غرب درنة للدمار، فيما اعتبر خبراء المناخ أن العاصفة نفسها دليل آخر على تفاقم أزمة المناخ، التي تغير أنماط الطقس بسرعة في جميع أنحاء العالم وتجعل الكوارث مثل فيضانات درنة أكثر احتمالاً.
إن حجم الكارثة، حسب كوك، لا يمكن أن يُعزى ببساطة إلى تغير المناخ، رغم أن التغطية الإعلامية تحجب هذه النقطة، فإن العدوان البريطاني قبل 12 عاماً، عندما تفاخرت بمخاوفها الإنسانية بشأن ليبيا، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمأساة التي تواجه درنة. إذ يشير المراقبون إلى أن فشل السدود وفوضى المساعدات هما نتيجة فراغ السلطة في ليبيا، فلم تعد هناك سلطة مركزية قادرة على حكم البلاد، ولكن هناك أسباب تجعل ليبيا غير مجهزة للتعامل مع الكارثة، والغرب متورط بعمق في ذلك.
وأوضح كوك أن ليبيا تعاني من الفوضى، حيث تتنافس حكومتان على السلطة في مناخ عام من الفوضى، وحتى قبل هذه الكارثة الجديدة، كان الزعماء المتناحرون في البلاد يكافحون من أجل إدارة الحياة اليومية لمواطنيهم. ما يعني أن الأزمة تفاقمت بسبب الخلل السياسي في ليبيا، الدولة الغنية بالموارد الطبيعية ولكنها رغم ذلك تفتقر بشدة إلى الأمن والاستقرار الذي يحتاجه سكانها بشدة.
كما تطرقت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) وغيرها من وسائل الإعلام البريطانية إلى الحديث عن هذه الفوضى، ولكن ما تجنبت هيئة الإذاعة البريطانية وبقية وسائل الإعلام الغربية ذكره بعناية هو سبب كون ليبيا دولة فاشلة، مثلما تجنبت الحديث عن تغيير النظام الغذائي قبل أكثر من عقد من الزمان، بعدما كانت ليبيا تتمتع بحكومة مركزية قوية، حيث تم استخدام عائدات النفط في البلاد لتوفير التعليم والرعاية الصحية المجانية. ونتيجة لذلك، كان لدى ليبيا واحد من أعلى معدلات معرفة القراءة والكتابة، وواحد من أعلى متوسط دخل الفرد في أفريقيا. ولكن تغير كل ذلك في عام 2011، عندما استخدم حلف شمال الأطلسي ذريعة “المسؤولية عن الحماية”، لتبرير عملية غير قانونية لتغيير النظام على خلفية الاضطرابات المفتعلة، وكان ما يسمى “التدخل الإنساني” في ليبيا نسخة أكثر تطوراً من الغزو الغربي غير القانوني للعراق قبل ثماني سنوات، في إطار عملية “الصدمة والرعب”.
لقد شنت الولايات المتحدة وبريطانيا حرباً عدوانية دون إذن من الأمم المتحدة استناداً إلى قصة كاذبة تماماً مفادها أن الرئيس العراقي صدام حسين كان يخفي مخزونات من أسلحة الدمار الشامل، وفي حالة ليبيا، من ناحية أخرى، تمكنت بريطانيا وفرنسا، بدعم من الولايات المتحدة، من الحصول على قرار من الأمم المتحدة بتفويض يقتصر على حماية السكان المدنيين ضد أي هجوم محتمل وفرض حظر جوي. وبموجب هذا القرار، اختلق الغرب ذريعة للتدخل بشكل مباشر في ليبيا، زاعماً أن القذافي كان يخطط لارتكاب مذبحة ضد المدنيين في معقل المتمردين في بنغازي.
وكما هو الحال مع أسلحة الدمار الشامل العراقية، كانت هذه الادعاءات كاذبة تماماً، وفقاً لتقرير لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان البريطاني الذي كتب بعد خمس سنوات، في عام 2016، كاشفاً أن “الاتهام بأن معمر القذافي أمر بقتل المدنيين” في بنغازي لا يدعمه أي دليل، ومن الواضح أن هذا ليس ما قاله رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أو وسائل الإعلام للرأي العام البريطاني عندما صوت النواب البريطانيون لصالح الحرب ضد ليبيا في آذار 2011، ولم يعترض على ذلك سوى 13 نائباً، وكان من بينهم جيريمي كوربين، الذي كان آنذاك نائباً، والذي تم انتخابه، بعد أربع سنوات، زعيماً للمعارضة العمالية، الأمر الذي أدى إلى إطلاق حملة تشهير طويلة ضده من قبل المؤسسة البريطانية.
عندما أطلق حلف شمال الأطلسي “تدخله الإنساني”، قدرت الأمم المتحدة أن القتال في ليبيا لم يتسبب في مقتل أكثر من 2000 شخص. وبعد ستة أشهر، بلغ عدد القتلى حوالي 50 ألف شخص معظمهم من المدنيين. ومن خلال استحضار مسؤوليته عن مهمة الحماية، تجاوز حلف شمال الأطلسي بشكل صارخ شروط قرار الأمم المتحدة، الذي استبعد على وجه التحديد “قوة احتلال أجنبية بأي شكل من الأشكال”. ومع ذلك، عملت القوات الغربية، بما في ذلك القوات الخاصة البريطانية على الأرض لدعم وتدريب الميليشيات المتمردة المعارضة للقذافي. وفي الوقت نفسه، نفذت طائرات الناتو حملات قصف أسفرت عن مقتل المدنيين الذين ادعى الناتو أنهم يحميهم، وبالتالي كانت عملية غربية غير قانونية جديدة لإسقاط النظام.
لقد فقدت وسائل الإعلام التي ركزت على الأهداف الإنسانية لهذا “التدخل” أي اهتمام بتطور الوضع في مرحلة ما بعد القذافي، فسرعان ما سقطت ليبيا تحت سيطرة أمراء الحرب، لتصبح دولة ازدهرت فيها أسواق العبيد، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان، وفراغ السلطة في أماكن مثل درنة سرعان ما اجتذب جماعات أكثر عنفاً وتطرفاً.
وهناك أيضاً الفراغ الملحوظ في التغطية الإعلامية الغربية لأسباب المأساة الحالية في ليبيا، فلا أحد يريد أن يشرح لماذا ليبيا غير مستعدة لمواجهة الكارثة، أو لماذا تعاني البلاد من الانقسام والفوضى . كما لا أحد يريد أن يشرح لماذا أدى غزو الغرب للعراق لأسباب “إنسانية” وتفكيك جيشه وقوات الشرطة إلى مقتل أكثر من مليون عراقي وتشريد الملايين ولاجئين، ولا لماذا تحالف الغرب مع خصومه السابقين من تنظيم “داعش وتنظيم القاعدة” ضد الحكومة السورية.
ويختم كوك تحليله بالإشارة إلى أن فكرة اهتمام واشنطن أو بريطانيا برفاهية الليبيين العاديين يكذبها عقد من اللامبالاة الكاملة بما كان يحدث لهم، وبلغت ذروتها في المعاناة الحالية في درنة، كما كان نهج الغرب تجاه ليبيا، كما هو الحال في العراق وسورية وأفغانستان، هو تفضيل رؤيتها تغرق في مستنقع من الانقسامات وعدم الاستقرار بدلاً من السماح لزعيم قوي بالحصول على الحكم الذاتي من خلال المطالبة بالسيطرة على موارد بلاده وإقامة تحالفات مع ليبيا.
لقد ذبح القذافي في الشارع وانتشرت الصور الدموية في جميع أنحاء العالم، وفي المقابل، تم إخفاء معاناة الليبيين العاديين على مدى العقد الماضي عن الرأي العام الغربي. واليوم، ومع كارثة درنة، أصبح وضعهم المأساوي في دائرة الضوء، ولكن بفضل وسائل الإعلام الغربية مثل هيئة الإذاعة البريطانية، تظل أسباب محنتهم غامضة مثل المياه التي غطت منازلهم.