كآبات
عبد الكريم النّاعم
جاء في المنجد :” كَئبَ – كأْباً – وكأْبة – وكآبة، كان في غمّ، وسوء حال، وانكسار من حُزن، فهو كَئب، وكئيب”، بمعنى أنّ الكآبة أعمق أثراً من الحزن، وأنّ الحزن بعض صفات تلك الكآبة.
***
دخل صديقي، وبعد جلوسه بقليل، قال: “أرى في وجهك آثار كآبة!!”.
قلت باستغراب: “كآبة واحدة؟!! بل قل كآبات تراكم بعضها فوق بعض”.
قال: “هل من جديد؟”.
قلت: “إنّه الجديد القديم الذي لا يتزحزح، ويتعمّق متغلغلاً في الداخل أكثر فأكثر. اسمع! من هذه الإطلالة التي تعرفها، أتواصل مع مَظاهر الناس، بدءاً من الطفل الذي هو في مرحلة التعليم الأساسي، حتى الذين تقدّمت بهم السنّ وهم يواجهون هذا الواقع.. هذا الطفل في المدرسة، قد تأخذه براءة الطفولة فيلعب غير مُدرِك لشيء مما يجري، بيد أنّه لا يعني أنّه لا يشعر بأنّ ثمّة الكثير ممّا ينقصه، فهو يشتهي الكثير شهوة طفليّة ولا يستطيع أهله تأمينها. وهذا الجيل الذي عليه أن يُواجه المستقبل قد أصابه من التشوّهات ما يجعل العاقل غير مطمئنّ، فقد كان المعلّم قدوة، ومرْجِعا يُلجأ إليه؛ وهو الآن كما أشرتُ في كتابات سابقة .. وتحت ضغط الحاجة من جهة، وبعض القرارات التي أَعتبرها خاطئة من جهة أخرى، ونتيجة تعليمات تحتاج لمراجعة صارمة، ضاعتْ هيبة المعلّم وفقد الكثير من ألقه.. تصوّر تلميذا في الابتدائي قال لمعلّمه، حين أراد توجيهه لخطأ ارتكبه، بوقاحة نتجت عن تلك التعليمات: “لا تغلط أستاذ! أنا أعرف حقوقي، وليس لك أن تنسى التعليمات”، فينكسر المعلّم، وينتفش ريش التلميذ، فأيّ بناء هذا؟!!
***
في الإعدادي والثانوي تتوسّع المعلومات، ويزداد الإحساس بالعجز عن الوصول إلى بعض ما يُفترَض أن يكون مؤمَّنا من قِبل الجهات الرسميّة المعنيّة، فيزداد الشرخ الداخلي.
شاب في الجامعة يقول لخاله باستغراب: “ماذا يعني أن تحصل على شهادة جامعيّة لا تؤهّلك لأن تأكل لُقمة الخبز بكرامة، ولا تفتح لك الأبواب التي أُغلِقتْ، فأُحكِم إغلاقها بفعل فاعل، عارف ماذا يريد؟”.
حلم أبنائنا أن يستطيعوا الخروج من الوطن إلى ديار الغرب، وهؤلاء الذين هاجروا سيظلّ ارتباطهم بأهلهم وذويهم هو ما يستطيعون إرساله من مال، قيمته في فرق العملة!
وسيتزوّجون، ويُنجبون أولاداً، قد تبقى في ذاكرة الأبناء ملامح عن الوطن، وستختفي شيئا فشيئا ظلالُها، فنكون قد خسرنا جيلا بكامله،
أليس هذا النّزيف ممّا يؤلم، ويقهر؟!!
كيف سينهض هذا الوطن، وبِمَن؟!!
بعض مَن أنيط بهم ذلك ربّما وقف بعضهم عاجزاً، وربّما استولى اليأس على البعض الآخر، وثمّة مَن لا يهمّه إلاّ الاستفادة من الموقع الذي هو فيه، وَ.. “خِربتْ .. عمْرتْ.. حادتْ عن راسو”.. بسيطة!!
من هذه الإطلالة التي تصلني بالمارّة في الشارع، أرى مَن كان يمشي منتصِباً من قبل، قد تهدّلتْ خطواته، واربدّ وجهه، وتاهتْ رؤيته..
قاطعني قائلاً: “عندي خبر لك قد يهمّك، قرأتُ على صفحة التواصل الاجتماعي، إنّ صبيّة في دمشق ستباشر بمشروع افتتاح فندق للقطط”.
هززتُ رأسي يمنة ويسرة، وقلت: “مثل هذا المشروع، إنْ صدق الخبر، يعني أنّ لديها من فائض المال، الذي نرجّح أنّه لم يُجمع من حلال، وأنّها تريد أن تقلّد بعض أرستقراطييّ الغرب الذين لديهم فنادق للكلاب وللقطط، والمهتمّون ببلادنا بالقطط والكلاب هم ممّن أثرى ثراء فاحشاً، فلم يعد يعرف كيف يتصرّف بما بين يديه، والذي يغيب عن هؤلاء، نتيجة أسباب معقّدة، أنّهم لا يخطر ببالهم إنشاء مشروع مُنتج، يفيد البلاد والعباد!!
ترى هل تكفي كآبة واحدة؟!!…
aaalnaem@gmail.com