سيدة الياسمين ترصع طريق الحرير بالبروكار الدمشقي
البعث الأسبوعية – أماني فروج
رسالة حب وأصالة حملتها سيدة الياسمين من دمشق إلى الصين بإطلالة متألقة بثوب من البروكار الدمشقي الموشى بالحرير، جمال تصاميمه وألوانه توحي بمعالم شرقية بنكهة معاصرة.
بخيوط من الذهب والبيج والقصب دمجوا مع الكحلي والنيلي توشح ثوب سيدة الياسمين فبلغ عدد خيوط البروكار الممزوج بالحرير ٨٠٠٠ خيط حرير بعرض ٩٠ سم، فكل ١ سم فيه ٤٠ خيط عرضي، و٨٠ خيط طولي لتتداخل فيه ثلاث زخرفات من روح العاصمة هي العاشق والمعشوق والياسمين والريحان الدمشقي الذي يليق بأبهى أيقونة من أيقونات الجمال الراقي بخبرة وإتقان أيادٍ سورية ماهرة أبدعت بتشابك الخيوط المتأثرة بعبق المكان، فحملت معها الأصالة والتراث العريق الذي تحدى أصعب الظروف على مر الزمن ليبقى علامة فارقة من ماضيهم إلى حاضرهم.
ولتدرجات اللون الأزرق حكاية دمشقية عتيقة حيث أطلق عليه الحرفيون السوريون “اللون الأزرق الشامي” ما يؤكد على أهمية الدور الكبير الذي لعبوه في تطور هذا الفن ما أدى إلى تسمية هذا اللون باسمها، وبقي مرتبطا بهوية دمشق التي يعتبرها أهلها قطعةٌ من جنة الله على الأرض الواقعة ما بعد سمائها الزرقاء، حيث قد تكون هذه الرمزية سبب التسمية وربط اللون بهذه المدينة.
بعيداً عن ترف المجوهرات، ارتدت سيدة الياسمين “أقراطا من صناعة يدوية” سورية خلال زيارتها إلى الصين، حيث كتبت مصممته عبر حسابها على فيس بوك: “يشرفني أن السيدة الأولى ترتدي أحد تصميماتنا الفريدة” فهي ليست المرة الأولى التي تدعم بها السيدة أسماء الأسد المصممين السوريين ذو المشاريع الإبداعية الصغيرة.
أول البروكار.. حرير
وعلى مدى عصور طويلة عرف “البروكار” الدمشقي الذي طرز تاريخ سورية بعراقته وأضفى على حجارة أسواقها عبق الأصالة والحضارة، وبات أغلى الأقمشة في العالم بعد أن راجت شهرته في أصقاع الدنيا مع آلة نسيجه القديمة “النول”، ولم يبقى رهن قماش منسوج من حرير طبيعي فقط بل تفنن السوريين به ليجعلوا منه لوحات فنية تعكس روح الشرق، وتطور هذه الروح والثقافة والذوق، وعلى مدار آلاف السنين تفاخر ملوك العالم باقتنائه وصنعوا منها ملابس أصبحت أحداثاً تاريخية تتناقلها الحكايات جيلاً بعد جيل.
البروكار الدمشقي.. اختيار الملكات على مر العصور
وبالرغم من انتشار البروكار على مدى العصور، ظل اسمه ملاصقاً لاسم أقدم عواصم العالم “دمشق”، حيث نسج صنّاع القماش المُذهَّب شهرته وزاد من انتشاره إبداعهم المتناهي وإتقانهم للحرفة على آلة النسيج الخاصة به. فشهرة البروكار التاريخية دفعت الملكات إلى اختياره كقماش لملابسهم في المناسبات المميزة، ففي القرن الثامن عشر كانت خزائن الملكة ماري انطوانيت، زوجة آخر ملوك فرنسا، تضم 72 ثوباً من البروكار الدمشقي، كما ارتدت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا سنة 1954 ثوباً من البروكار الدمشقي نسج خصيصاً لها من الحرير الطبيعي الموشى بخيوط الذهب والفضة، وقد قامت الحكومة السورية آنذاك بإهدائه لها بمناسبة تتويج الملكة.
ومن هنا يبرز مدى تلاقي الحضارات وانسجامها على القماش الدمشقي، كما هي أرض الشام التي شهدت على الدوام أبرز الحضارات بتنوع فنونها الخالدة وبذل السوريون جهوداً كبيرة للحفاظ عليها طيلة عقود من الزمن وتمسكوا بهذه الحرفة بوصفها مَعلَماً في التراث اللامادّي للسوريين التي توصي السيدة الأولى بدعمه على امتداد مساحة الوطن.
حرير سورية.. يلف خارطتها
خيوط الحرير المأخوذة من دودة القز التي تربت على طرفي مجرى نهر العاصي، وبعض قرى الساحل فذاع صيت بلدة “الدريكيش” في محافظة طرطوس بتربية دودة الحرير، حيث توجد حاضنتها الطبيعية من أشجار التوت. وكانت الخيوط تنقل إلى حلب التي تشتهر بصناعة النسيج منذ عقود طويلة من الزمن، حيث تغزل وتعالج وتبرم وتلون، ثم تجد طريقها إلى دمشق لتنسج.
الصبر والتأني.. مفتاح أهل سورية للحرفة
والتفرد بحرفة شاقة تتطلب جهداً وتركيزاً عاليين، فكان الصبر والتأني مفتاح أهل الشام الذين اعتمدوا في هذه الصناعة التقليدية على عنصرين أساسين أولهما الإنسان الحرفي، والنول اليدوي لحياكة الرسم على البروكار بعملية معقدة ترتكز على تفاصيل دقيقة، فكان الحصول على متر واحد من البروكار يتطلب أشهراً تتوجها قطع بروكار، وأصبح الحرير السوري يضاهي الصيني جودة وإتقاناً.
السوريون.. أيادٍ ماهرة تكتب ملاحم للتاريخ
وجد السوريون ملاذاً آخر يتركون فيه أفكارهم على شكل نقوش وزركشات من حرير نقشوها على البروكار بعضها مأخوذ من التراث الشعبي القصصي القديم كقصة أبو زيد الهلالي والزير سالم، وبعضها الآخر مأخوذ من التراث الإسلامي كالرسوم الهندسية، وأخرى مأخوذة من التراث العالمي كروميو وجولييت، أو من التراث الصيني كنقش المروحة، إضافة إلى نقوش أخرى يطلق عليها تسميات عدة مثل “القارب الإغريقي”، و”الخيط العربي”، و”الموزاييك”، و”البقلاوة الشامية”، ونقش “الفراشة” المكون من سبعة ألوان، وكان النساجون أحياناً يقلدون النقوش الموجودة على جدران وسقوف المنازل الدمشقية القديمة والأماكن الأثرية.