مجلة البعث الأسبوعية

مخططات غربية تضليلية لعرقلة “الحزام والطريق” في الشرق الأوسط

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد    

دائماً تثور التساؤلات حول ما تهدف إليه الصين من تنفيذ مشروع طريق الحرير العملاق، والفائدة المرجوة منه سواء لها أو للدول المنضمة إليه، وإن كان فعلاً نقطة من نقاط ارتكاز لنظام عالمي جديد تقوده الصين وغيرها من القوى الصاعدة؟.

إن طريق الحرير هو إحياء لأمجاد الصين القديمة لطريق عمره أكثر من 2100 عام قبل الميلاد، لكن وفق رؤى العصر الحالي سواء عبر الطرق البرية “الحزام” أو الطرق البحرية “الطريق”، ليحقق ربطاً تجارياً واقتصادياً للصين مع دول إفريقيا وغربي آسيا، وآسيا الوسطى، وأوروبا، مع امتداد حالي نحو أمريكا اللاتينية، إضافة إلى أنابيب الغاز والنفط، والكابلات وشبكات الجيل الخامس، ومحطات توليد الطاقة الكهرضوئية، وبناء نحو خمسين منطقة اقتصادية صينية على امتداد هذا الطريق، والذي يتضمن أيضاً العديد من المشاريع القادرةً على انتشال أكثر من 40 مليون إنسان من الفقر على امتداد 150 دولة منضمة.

لقد انطلقت الصين من مبدأ “رابح – رابح” في بناء هذا المشروع كغيره من تحالفات واتفاقيات الصين، عبر إطلاق مشاريع تفيد الدول المنضمة دون فرض أو تحقيق أي مآرب سياسية، مع التأكيد أن هذا المشروع لا يستهدف الإضرار بالغرب أو أي أطراف أخرى، فضلاً عن أن الرئيس الصيني شي جين بينغ ذكر مراراً وتكراراً أن هذا المشروع مجرّد تحالف اقتصادي، ولا يشكل أي مبادرات جيوسياسية عسكرية أو يلجأ لأي مناورات جيوسياسية عفا عليها الزمن بغية تأسيس المشروع، نافياً قيام الصين بلعب لعبة المحصلة الصغيرة “أنا أربح وأنت تخسر”، بل ستلتزم بمستوى عالٍ من الانفتاح وبتعاون متبادل المنفعة مع دول العالم.

 

البروباغندا الغربية

أما على المقلب الغربي، فنجد ترجمات مغايرة تدّعي أن المشروع يهدف لابتلاع الدول الصغيرة، عبر إغراقها بديون لن تتمكن من سدادها مستقبلاً، لتملك أصولها، ما يشكل بوابة للسيطرة على الدول بالكامل ووضعها تحت وصايتها “حسب المزاعم الغربية”. لكن الصين تؤكد عدم صحة هذه النظريات والإدعاءات الباطلة، بل يشاركها الرأي الكثير من الخبراء بما فيهم الغربيون، فاستحواذها على أصل أو أصلين على امتداد العالم لا يعني أنها تعد مصيدة للإيقاع بدول أخرى.

كذلك قدم الغرب ترجمة أخرى للمشروع بالقول إنه قادر على تأمين إمدادات الطاقة للصين بالتخلص من “عقدة ملقا”، إذ إن الصين تستورد نحو 70 بالمئة من احتياجاتها من حوامل الطاقة من غربي آسيا وإفريقيا، و80% من تلك المستوردات تمرّ في مضيق ملقا الواقع في المياه الإقليمية لكل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، والتي ربما تقنعها الولايات المتحدة أو حتى تجبرها على إغلاقه في حال نشوب خلافات أو نزاعات بينها وبين الصين لوقف شريان الطاقة فيها، فمشروع الصين سيؤمن بدائل كثيرة لهذا المضيق. أيضاً يؤكد الغرب أن المشروع بالمحصلة سيبني نظاما عالميا جديدا تقوده الصين بدلاً من أمريكا التي كانت تفعل ذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ومن منظور آخر، فإن المشروع سيتكامل مع بنك الاستثمار الآسيوي وبنك التنمية التابع لـ “بريكس”، وهذا سيزيد من الطلب على العملة الصينية ويقوض الطلب على عملات الغرب، وبالتالي فإن الغرب يزيد من ضراوة عدائه للصين وتشويه صورتها. ولكن ذلك لم ينجح، إذ نرى دولاً حليفة لأمريكا تنضم إلى المشروع، كدول الخليج و18 دولة أوروبية، كما يزيد الغرب من ضراوة حربه من خلال حرمان الصين من المنتجات الغربية عالية التقنية، لدرجة لم نعد نشاهد الصين – ولأول مرة منذ سنوات طويلة – في موقع الشريك التجاري رقم واحد لأمريكا.

كذلك يعمد الغرب إلى بث إدعاءات بتنفيذ مشروعات بديلة عن المشروع الصيني، أو بثّ دراسات تزعم أن الصين أصبحت على أبواب انهيار اقتصادي مرتقب، لكن الصين أكدت أن العام الحالي حقق انتعاشاً اقتصادياً عالمياً بطيئاً، ومع ذلك واصل الاقتصاد الصيني تعافيه، ففي النصف الأول من هذا العام نما الناتج المحلي الإجمالي الصيني بنسبة 5.5 بالمئة وهو معدل أسرع بكثير من نمو العام الماضي، يضاف إلى ذلك توقعات صندوق النقد الدولي بنمو اقتصاد الصين بنسبة 5.2 بالمئة هذا العام، وبأن تصل مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي إلى الثلث، وذلك يؤكد بقوة دور الصين كقوة دافعة للنمو الاقتصادي العالمي.

وفي وقت يصرّ الغرب على نهجه المشكك مدعياً أن المشروع الصيني سيُغرق من ينضم إليه من الدول ببحر من الديون، فإن أمريكا تعيد الحديث مع حلفائها عن إطلاق مشروعهم المنافس” الممر الاقتصادي”، لربط الهند ودول الخليج وأوروبا مروراً بالأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

مشاريع واشنطن

إن المتابع لسياسات الولايات المتحدة يعلم تمام المعرفة أن مشروعها للشحن والسكك الحديدية في الشرق الأوسط مجرّد وعود فارغة مشكوك بمصداقيتها لدرجة كبيرة، والهدف الرئيسي من ورائه لا يعدو محاولة عزل الصين في المنطقة، وهي بالتأكيد ليست المرة الأولى التي تقدّم فيها واشنطن مشاريع فارغة لمختلف البلدان تتضمن الكثير من الكلام المعسول وصفراً من التنفيذ على أرض الواقع، لأنها ببساطة تفتقر إلى النية الحقيقية والقدرة على متابعة تعهدها بتعزيز شبكة النقل في الشرق الأوسط. وهذا يذكرنا بوعود وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، حول رعاية واشنطن لـ “طريق الحرير الجديد” الذي كان مزمعاً انطلاقه من أفغانستان، ولكن ما يحدث مجرد سياسات لتشكيل مجموعات مناوئة للصين بأي طريقة ودون دفع أي ثمن.

ولكن اللافت أن دول الخليج لم تمانع في الانضمام إلى كلا المشروعين الغربي والصيني على حدٍ سواء، عبر ممارستها لسياسة تحوط دقيقة وذكية تضمن تحقيق مصالحها، وعدم تبعيتها لأي طرف سواء كان غربياً أم شرقياً.

يلحظ الجميع أن الولايات المتحدة الأميركية تتابع خسارة ركائزها في الشرق الأوسط، حيث بدأ زعماء تلك الدول الركائز رسم مساراتهم الخاصة، مُتجاهلين بشكلٍ كبير المصالح الأساسية لواشنطن، بعد أن أصبحوا على ثقة تامة بأنّ العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية الوثيقة مع الصين، وروسيا، ستوفّر لهم بدائل مناسبة عن الولايات المتحدة. وفي الغالب توقفت تلك الدول عن التعاون مع الولايات المتحدة بشأن أولوياتها الإقليمية، بل حتى على مستوى العلاقات الشخصية الحميمة نلاحظ أنها باتت ضعيفةً مع الرئيس الأميركي جو بايدن، بينما هي قوية بين معظم زعماء دول الشرق الأوسط، بمن فيهم الذين كانوا من أبرز حلفاء بايدن في الأمس، مع زعيمي روسيا فلاديمير بوتين والصين شي جين بينغ، وهذا بفعل عوامل عديدة فعلى سبيل المثال لم يعد النفط وحده أداة اقتصاد دول الخليج،والدول الآسيوية تقوم باستثمارات معقدة ومتنوعة ضمن أسواق الخليج بعيداً عن النفط.

وتدرس الرياض مثلا عرضاً صينياً لبناء محطة للطاقة النووية في المنطقة الشرقية قرب الحدود مع الإمارات وقطر، وقد أكد المتحدث باسم الخارجية الصينية، وانغ وين بين، أن الصين والسعودية شريكان استراتيجيان، وأن بكين ستستمر في التعاون مع الرياض في مختلف المجالات، بما في ذلك الطاقة النووية المدنية، مع التقيد الصارم بالالتزامات الدولية المتعلقة بحظر الانتشار النووي.

وهذا يعني أن السعودية لم تعد مضطرةً لانتظار الحصول على التكنولوجيا النووية من الإدارة الأمريكية، والتي حتى لو وفت بوعودها فستكون الأثمان غالية جداً، ولذلك نرى تلك الإدارة تسعى جاهدةً إلى منع الصين من استخدام البنية التحتية والتنمية سبيلاً للانتشار والتمدد السياسي أو حتى الاقتصادي في الشرق الأوسط، ناهيك عن مخاوفها من الانتعاش والتمدد الذي حققته الصين مؤخراً في القارة الإفريقية التي أصبحت قطباً عالمياً بارزاً على مستوى العالم الجديد.

ولا ننسى أيضاً أن بايدن يطمح إلى أن يحقق إنجازاً في الشرق الأوسط، يُحسب له قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2024، وذلك عبر التوصل إلى اتفاقية تطبيع بين السعودية و”إسرائيل”، وتحقيق أي انتصارات “دونكيشوتية” حالمة في المنطقة، فهو يطمح من خلال التلويح بمشروعه المنافس للصين إلى زيادة دمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وإيقاظ أوهام المشروع الإبراهيمي بعد أن توسعت بوادر فشله وانكشفت للعلن، ناهيك عن محاولته الضغط على إيران فيما يخص التفاوض في ملفها النووي، ولتمرير المشاريع الغربية في المنطقة وإبعاد طهران عن جادة التقارب والتوافق مع دول الخليج للإبقاء على حالة التوتر التي تطيل أمد الوجود الأمريكي في المنطقة، كما سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى تطوير مروحة اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية و”إسرائيل” وتوسيعها عبر تعزيز الاقتصاد “الإسرائيلي” من ناحية، وتعزيز النمو والاستثمار في الدول المطبّعة مع “إسرائيل” من ناحية أخرى، لتكون حافزاً للدول غير المطبّعة لتحذو حذوها طمعاً بالازدهار والنمو الاقتصادي، الذي تحاول أن تربطه الولايات المتحدة وتسوّقه عبر وسائل الإعلام التابعة لها على أنه لن يتحقق إلا عبر السير بعملية التطبيع مع هذا الكيان الغاصب.

ومهما حاول بايدن إبقاء موضوع تطبيع العلاقات بين السعودية و”إسرائيل” على السطح لدعم حملته الانتخابية، فإن القاصي والداني يعلم بأن تلك المساعي عبثية وفق ما يحدث في المنطقة من تطورات متسارعة وغير مسبوقة، وبالمجمل فإن كل المؤشرات تؤكد أن قطار التطبيع توقف، وخاصةً بعد أن أشعل مجرّد التلويح به الساحات الليبية الشعبية ناراً متقدة وغضباً عارماً لا يمكن لأحد كبحه. والمنطق يقول: إن على الولايات المتحدة في حال فعلاً أرادت محاكاة خطوات الصين الناجحة في المنطقة، أن تنهي وبشكل فوري وجودها العسكري فيها وسحب جميع قواعدها وأساطيلها الاستعمارية التدخلية من أراضيها وبحورها ومضائقها قبل أن تسوق لنفسها على أنها صاحبة مشروع يدعم ازدهار اقتصاديات المنطقة بعد طول تغنٍ بـ”الفوضى الخلاقة”، في وقتٍ تزداد الجغرافيا السياسية تعقيداً بعد أن انقلبت رأساً على عقب إبان الحرب في أوكرانيا، وما تبع ذلك من قمم وتحالفات لقوى العالم الجديد الصاعدة، إضافةً إلى اتقاد حالة الوعي الشعبي الإفريقي ضدّ الوجود الغربي في القارة السمراء.

ولنكن موضوعيين فإن هناك تحديات أخرى تواجه المشروع الصيني تتمثل في تعثر بعض المشاريع المرتبطة بطريق الحرير، أو ثبوت عدم جدواها لأسباب دخيلة، أو حتى بسبب سوء في دراسات الجدوى عند إعداد تلك المشاريع، إضافةً إلى تواجد دول توشك على الإفلاس ضمن الدول المنضمة للمشروع، وخاصة في خضم أزمات كورونا والحرب الأوكرانية التي أوقعت العديد من الدول في فخّ الاقتراض من البنك الدولي وإتباع سياساته وشروطه التعجيزية، لكن الصين سارعت لاستدراك هذا التحدي عبر تكثيف وتعميق دراسات الجدوى لمشاريعها المرتبطة بطريق الحرير، والعمل على بناء مشاريع ليس بالضرورة أن تكون عملاقة تهدف لتحقيق أكبر قدر من القيمة المضافة للدول المنضمة لـ “طريق الحرير” تندرج تحت مسمى “مشاريع صغيرة لكن جميلة”، إضافة إلى تقليل القروض الممنوحة من الصين للدول وتقليل الفوائد عليها.

خلاصة القول: إن من ينفذ مشروعاته التنموية على الأرض، سواء كان الصين أو الولايات المتحدة، هو من سيثبت نفسه وعلاقاته ضمن منطقة لطالما انتهجت معظم دولها سياسة التحوّط الاستراتيجي وتقرير مصالح شعوبها كبوصلة للانخراط ضمن أي تحالف أو مشروع استراتيجي، والأكيد أن الصين ستكسب كونها الأبرع في تنفيذ مشروعات التنمية الحقيقية.