تجفيف التين “الهبول” … حكاية تراثية ترويها مدينة مصياف
مادلين جليس
لا يمكن لأحد منا أن يذكر اسم مدينة مصياف أو ريفها دون أن تتدافع أمام ذهنه صور أشجار التين بثمارها الصفراء الشهية، ودون أن تزاحم رائحة الهبول أنفه حاملة معها رائحة ليالي الشتاء الباردة، وقطع الهبول ترافق كأساً من الشاي الساخن، أو جلسة المتة المسلية، أو حتى فنجان القهوة الصباحي.
اشتهرت مدينة مصياف بصناعة تين “الهبول” والتين المجفف على حد سواء، وعلى الرغم من أنّ زبيب مصياف أيضاً أخذ شهرة غير قليلة، إلا أن تين الهبّول استحوذ على الشهرة الأكبر والانتشار الأوسع، وأصبح أحد المعالم الأساسية للمدينة، حتى أنّه لا يكاد يذكر أحدهم نيّة زيارته للمدينة دون أن يسجّل على قائمته طلباتٍ لأصدقائه ومعارفه بكيلوات غير قليلة من التين المجفّف وتين الهبّول.
يبدأ موسم التين في ريف مصياف، مع حلول شهر آب الذي يقال له “آب طبّاخ التين” إشارة إلى نضوج حبات التين في هذا الشهر، وإلى بدء موسم التين المجفف ومن ثم الهبول على اختلاف أشكاله ونكهاته.
أما صناعة الهبول، فهي من أمتع ما تقوم به النساء في ريف مصياف، فبعد رحلة القطاف التي يقوم بها الرّجال إلى الكروم عائدين محملين بسلال التين الملفوفة بورق العنب، تبدأ النسوة بتنقية الحبات، وانتقاء الأكثر نضوجاً منها، فالحبّات الناضجة أسرع في التّحوّل إلى التين المجفّف من غيرها، كما أن نضوجها يعطيها حلاوة تظهر أكثر بعد تجفيها أو تحولها للهبول.
أمّا التّجفيف فهو بقسمين، القسم الأوّل هو فتح حبات التين أو كما يسمى “تشقيع” باللهجة الدارجة في المنطقة، بحيث تتعرض كلّها للشمس، ويجف لبّها وتذهب المياه الموجودة ضمنه مع حرارة الشمس، والقسم الثاني هو تجفيف حبات التين دون اللجوء لفتحها أو “تشقيعها”، وبذلك تحافظ الحبة على شكلها، وتجف خارجياً بينما يحتفظ داخلها بقليل من الطراوة كونه لم يتعرض لحرارة الشمس المباشرة.
لكن التين الأكثر اعتماداً في صنع الهبّول هو القسم الأول أي المفتوح، فبعد جفاف الحبّات نهائياً، تقوم النسوة بوضعها في إناء مثقب من الستانلس، يوضع هذا الإناء فوق قدر يحتوي مياهاً ساخنة حدّ الغليان، ويغطي بقماش أبيض، حيث تتعرّض حبات التين لبخار الماء أو هبلة الماء، ومن هنا يأتي سبب تسميته بالهبّول، إشارة إلى عملية التبخير أو التهبيل التي تحوّله من الشكل القاسي للشكل الطري المحبب والمطلوب.
بعد ذلك تقوم النسوة بطحن حبات التين، إما بماكينة الكبّة اليدوية، أو بدقّه ضمن الجرن الحجري، حتى تصبح عجينة طرية ليّنة تفوح منها رائحة التين العبقة، لتبدأ بعد ذلك المرحلة الأخيرة من تحضير الهبول، وهنا يبدأ تشكيل النكهات وحشي الهبّول بما لذ وطاب.
فبعد تشكيل الهبول بالشكل المطلوب، تقوم النسوة بحشيه بالمكسرات كالجوز والوز والفستق، ومن ثم تغطى الحبات بالنخالة أو كما تسمى ب “الصرصيرة” بلهجة أهالي مصياف، أو تغطى بالسمسم أو جوز الهند.
أما حبات التين التي جففت بشكلها الصحيح فهي تشكل بقلائد وتخزن حتى الشتاء.
وفي النهاية أدعوكم أصدقائي جميعاً لزيارة مدينة مصياف وتذوّق الهبول بالسمسم أو جوز الهند والاستمتاع بكأس من الشاي الساخن مع الطبيعة الساحرة.