الصفحة الاخيرةحديث الصباحصحيفة البعث

نوافذ 75

عبد الكريم النّاعم

جاء في أحد الأقوال إنّ “الشخص الذي لا يمتلك إلاّ مَطْرَقة في مجموعة أدواته، تَظهَر له كلُّ مُشكلة على أنّها مِسمار”. وبعض النّاس ينطبِق عليهم هذا القول في رؤاهم، وفي قناعاتهم، وفي معتقداتهم، فهم محصورون في حدود “مِطرقتهم” الفكريّة، ويريدون لكلّ ما يمرّ بهم من أحداث وأفكار أن يعالجوها على أنّها ذلك المسمار المُثبَّت في عقولهم، وهم بذلك يختصرون الماضي والحاضر والمستقبَل في حدود تلك المِطرَقة الرّاسخة في أذهانهم، وهذا يعطِّل فعّالية العقل الذي يُواجَه بكلّ جديد متسارع لا يتوقّف، فيتحوّلون هم إلى مَطارق قاتلة.

***

ليس بعيداً عن فضاء الفقرة السابقة، يقول الشيخ محمّد عبده، شيخ الجامع الأزهر في بدايات القرن الماضي: “ليس في الإسلام سلطة دينيّة سوى سُلطة الموعظة الحسنة، والدّعوة إلى الخير”، ويُعرّف السلطة في الإسلام بأنّها “سُلطة مَدنيّة ذات وظائف دينيّة”.

أمّا الشاعر الهنديّ الكبير طاغور فيقول: “من الغريب في صلواتنا أنّنا قلّما نطلب فيها تغييراً في الأخلاق، وإنّما نطلب دائماً تغييراً في الظّروف”.

تُرى أليست كلتا فكرتي الشيخ محمد عبده وطاغور تصبّان في خليج واحد، وتشربان من منبع واحد بالغ الصفاء؟!!

الكلام برسم الذين يصرّون على أنّ “فهْمهم” للمذهب الذي هم عليه، ولا أقول “الدِّين”، لأنّ الدين أوسع من مذاهبه، والمذاهب ليست إلاّ رؤى واجتهادات لأناس قال عنهم الشافعي “هم رجال ونحن رجال”، بمعنى أن لا نحصر أنفسنا في “مَطارق” مَن سبق، لئلا نتحوّل إلى مسامير.

إنّ تركيز طاغور على “الأخلاق” يستدعي ما قاله رسول الرحمة، صلوات الله عليه وآله: “إنّما بُعثتُ لأتمّمَ مكارم الأخلاق”، فالأخلاق أساس، ونعني بها ما ينفع النّاس، فهل توقّف عند هذا القول مُكفّرو مَن لا يَرى رؤيتهم، فأعطوا لأنفسهم عصمة، هي محض ادّعاء، وهي ليستْ أكثر من مسمار للمطرقة التي في عقولهم، وهذا فهْم خطير ربّما كان أحد أسباب التخلّف والجمود الذي يسود أوساط المتشدّدين الزّاعمين أنّهم وحدهم على صواب، ومَن عداهم ضالّون!!

في سياق ما نحن فيه، يبرز رأي مهمّ وعميق لطاغور يقول: “إن الله يطلب من الناس أن يبنوا له هيكلاً، فلا يتقدّمون إلاّ بالحجارة”، وهذا يُحيل بدوره إلى مفهوم بعيد الأغوار، قد لا يرقى إليه إلاّ قلّة ممّن شملتْهم عناية رفيعة، وهو يستدعي من جهة أخرى حضور حديث قدسيّ، ورد فيه “إنّ حرَمي قلب عبدي المؤمن، وحَرام على حَرَمي أن يسكنه أحد غيري”.

هذه المفاهيم الرّفيعة هي أبعد ما تكون عن أصحاب الرؤى الضيّقة، الذين يوظّفون عناوين وشعارات دينيّة لخدمة أهداف لا علاقة لها بجوهر الدّين، وتدلّ على السطحيّة. وأسوق كمثال حادثة وردت في العديد من كتب التراث؛ فقد رُوي أنّ أحد “الخوارج” اشتدّ عليه العطش، فمرّ ببستان، فذهب ليبحث عن صاحبه ليستأذنه في قطاف ثمرة يبلّ بها ريقه، فصادف رجلاً، وطفلاً يُمسك بيد أمّه الحامل، فسأل الرجلَ: “هل أنت من شيعة عليّ”، فأجابه: “نعم”، فقال له: “إمّا أن تتبرّأ منه، أو سأقتل هذا الطفل”، فأجابه: “اقتلْه”، فقتَلَه، وأعاد القول: “إمّا أن تتبرّأ أو سأقتل هذه الحامل والطفل الذي في بطنها”، فقال: “اقْتلْهما”، فأغمد سيفه في بطنها، وأعاد عليه أن يتبرّأ أو أنّه سيقتله، فأجابه:” اقتلْني”، فقتلَه، وذهبَ يبحث عن صاحب البستان ليستأذنه في قطّف ثمرة!!

ذلك هو حالنا مع بعض مَن واجهْنا، ونُواجه.

لن نكون مسامير لمطارقهم.

aaalnaem@gmail.com