الشاعر د.نزار بريك هنيدي.. أخطر ما أنتج باسم الحداثة النصوص التي تملأ الساحة اليوم
البعث الأسبوعية – أمينة عباس
كتب الشعر في سن مبكرة جداً، وحاور كبار الشعراء، وفي مقدمتهم بدوي الجبل وشوقي بغدادي من خلال مجلته “الواحة” التي أسسها وترأس تحريرها في المرحلة الإعدادية والتي كانت الحضن الحقيقي الذي نمتْ فيه تجربته الشعرية التي مازالت متوقدة حتى الآن دون توقف، وقد حظيتْ بكثير من الاهتمام، وكتب عنها كبار النقّاد العرب.
*الكتابة الشعرية ملكة لا يتمتع بها أي شخص، فكيف كانت البداية الحقيقية لك؟
**تعلمتُ القراءة قبل دخولي المدرسة، وشغفت بقراءة قصص الأطفال التي كانت والدتي تحرص على شرائها لي، كما شغفت مبكراً بحفظ كثير من قصائد التراث العربي بفضل الأساتذة الذين علموني في المرحلة الابتدائية، وقد لاحظ الأستاذ غالب خوري معلمي في الصف الرابع أن أحد نصوصي التي عرضتُها عليه يتضمن عبارات موزونة، فراح يعلمني علم العروض ويشجعني على كتابة الشعر مما جعلني أعمل مع عدد من الزملاء على إصدار مجلة سوف تصبح في المرحلة الإعدادية مجلة مطبوعة اسمها “الواحة” وقد تبّنت إصدارها في المرحلة الثانوية ثانوية جرمانا ليتم توزيعها على ثانويات دمشق، وأصبح لها مراسلون، وكنت أرأس تحريرها وأكتب فيها الكلمة الافتتاحية وأنشر قصيدة في كل عدد، بالإضافة إلى الحوارات التي كنتُ أجريها مع الشعراء الكبار، وفي مقدمتهم بدوي الجبل وشوقي بغدادي، وبالتأكيد فإن قراءاتي المتواصلة وتجربتي في المجلة كانت المهاد الحقيقي الذي بدأت ونمتْ فيه تجربتي الشعرية.
*شكلت قصيدة التفعيلة نصوص ديوانك الأول الذي صدر في نهاية المرحلة الثانوية، فهل كان خيار قصيدة التفعيلة مقصوداً؟
**في المرحلة الابتدائية والإعدادية كنت أكتب القصيدة التقليدية ذات الشطرين (العمودية) تحت تأثير قراءاتي لشعراء التراث العربي والشعراء المعاصرين الذين كان شعرهم يملأ الساحة الأدبية في تلك الفترة، وكانت القصائد التي كنت أنشرها في “الواحة” تقليدية، وفي الصف العاشر بدأت أتعرف على شعر الحداثة، فأحببت كثيراً خليل حاوي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور، وغيرهم من رواد الشعر الحر كما كان يسمّى يومها أو قصيدة التفعيلة، ووجدت في هذا الشكل تناغماً أكبر مع ما كان يجيش في نفسي من أحاسيس ومشاعر، ومع ما أتطلع إليه من تغيير وتحديث، فانتقلتُ إلى كتابة قصيدة التفعيلة، وقصائد التفعيلة التي كتبتُها في المرحلة الثانوية هي التي ضمّتها مجموعتي الشعرية المطبوعة الأولى “البوابة والريح ونافذة حبيبتي” التي صدرت عام ١٩٧٧ في نهاية المرحلة الثانوية وكتب مقدمتها شوقي بغدادي ولاقت الكثير من الترحيب في الأوساط الثقافية.
*مارستَ معظم أشكال الكتابة من العمودي إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر والمنمنمة، فما هي النتيجة التي خرجتَ بها على هذا الصعيد؟
**مما لا شكّ فيه أن الحالة الشعرية التي يعيشها الشاعر هي التي تفرض الشكل الذي يستطيع تجسيدها، فالعلاقة جدلية بين المحتوى والشكل، وأي تغيير في الشكل سيؤدي حتماً إلى تغيير في المحتوى، ومن ثمّ فإننا لا يمكن لنا الحديث عن محتوى دون شكله المتطابق معه، فلا يمكن للمشاعر القلقة المتوترة أن يضمّها شكل إيقاعي هادئ ومتوازن، كما لا يمكن لرؤية تنطلق من العصر وتستشرف المستقبل أن تعبّرَ عن نفسها بقالب قديم أو ألفاظ ميتة، والعكس صحيح، إذ لا يمكن للشاعر أن يعبّر عن حالة السلام والانسجام الداخلي أو الإيمان المطلق وامتلاك اليقين بقصيدة نثر تفترض التبعثر والاضطراب، وأعتقد أن الخلل في العلاقة بين الحالة الشعرية وشكل التعبير عنها من أهم الآفات التي يعاني منها شعرنا العربي الراهن.
*هل تتفق مع قول الشاعر فايز خضور أن الفنون جميعها والشعر خاصة لم تكتسب دلالة موحية لولا الشكل لأن المضامين ملقاة في الشوارع؟
**هذه المقولة قديمة وتعود في أصلها إلى الجاحظ الذي قال إن المعاني مطروحة في الطريق، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك، وقال إن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، والكثيرون من شعراء ونقاد الحداثة يحبّون هذه المقولة ويستحضرونها ليؤكدوا فيها شرعيّة ثورتهم على النظرة التقليدية الشائعة التي تفضل قصيدة عن أخرى بسبب مضمونها دون الالتفات إلى أن الشعر فن في المرتبة الأولى، وأهميته تتجلى في أن تكون القصيدة جديدة في محتواها وشكلها في الوقت نفسه لأن الاشتغال على الشكل وحده لن ينتج سوى ألعاب لفظية مجردة، كما أن الاحتفال بالمعنى وحده سيخرج النص من دائرة الإبداع والفن، ولا يمكن للنص الشعري أن يحقق وجوده إلا بالعلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون والتي لا يتمكن من إقامتها إلا الشاعر المبدع الحقيقي.
*كانت حداثة الشعر الشغل الشاغل للشعراء، فما أخطر ما أُنتج من الشعر باسمها؟ وما هي الحداثة الشعرية التي يجب أن يسعى إليها شعراء اليوم؟
**لا يمكن للإبداع في أي مجال من مجالات النشاط الإنساني أن يتحقق إذا لم يكن حداثيّاً، بمعنى أن ينطلق من تفاعله مع الواقع المعيش، وأن يمثل معاناة وتطلعات الإنسان المعاصر، وأن يكون ممتلكاً للإنجازات الإبداعية التي سبقته وقادراً على تجاوزها والإضافة إليها، أما أخطر ما أُنتج باسم الحداثة فلا شكّ أنه يتمثل في النصوص التي تملأ الساحة اليوم والتي لا يربطها رابط بالأدب أو الفن بسبب الفهم القاصر للحداثة التي ظن الكثيرون أنها تعني السهولة والفوضى والانفلات من كل المعايير، أما الحداثة الحقيقية التي تمنح شرعية الوجود لأي مُنجز فني جديد فهي حداثة الموقف والرؤيا والإضافة الإبداعية الجمالية.
*تشهد الأجناس الأدبية والفنية اليوم تداخلاً كبيراً فيما بينها، فما تأثير ذلك على هويتها في المستقبل؟
**ربما كان انفتاح الأجناس الأدبية على بعضها واحداً من إنجازات حركة الحداثة في الأدب، فلكل جنس إبداعيّ أن يستفيد من طاقات وإمكانات الأجناس الأخرى ويوظّفها في نصّه، فللشعر مثلاً أن يستخدم لغة السرد أحياناً، وأن يوظف الحوار الدرامي، كما له أن يلجأ إلى بناء مشهد يقترب من المشهد المسرحي أو السينمائي، لكن الأساس في ذلك كله أن تذوب هذه التقنيات في بنية القصيدة وتقوم بدورها في بناء شعريّة النص دون أن تبدو دخيلة عليه أو متنافرة مع عناصره أو مخلخلة لأسلوبه وفضائه التعبيري، وبذلك فإن كل جنس سيتطوّر بما ينسجم مع حالة الانفتاح بين الفنون والثقافات التي تسم العصر الحديث في مختلف جوانبه، لكنها ستبقى محافظة على ما هو ثابت في بنيتها الخاصة كفنّ مستقل يتميز بأدواته وإمكاناته وجماليّاته عن الفنون الأخرى.
*حازت تجربة نزار قباني وجبران خليل جبران على اهتمامك في تجربتك النقدية، فهل من قواسم يشتركان فيها برأيك؟
**ربما كان القاسم المشترك الأعظم بينهما هو نجاحهما في تحقيق المعادلة الصعبة بين تحقيق الإنجاز الفني الإبداعي المختلف عن السائد والقدرة على الوصول إلى الشرائح المتعددة والمستويات المختلفة من المتلقين مما كفل لكل منهما مكانته المتميزة في ساحة الإبداع العربي، وهذا هو الدافع الأساس الذي جعلني أعمل على دراسة تجربة كل منهما للوقوف على مكوّناتها وأسرارها وخصائصها المميّزة.
*ما السر الذي يحمله كتابك”هكذا تكلم جبران” لينال ما ناله من الانتشار والإعجاب؟
**بالرغم من الكتابات الكثيرة التي تناولت جبران خليل جبران في الشرق والغرب فإنها في غالبيتها كانت تتمحور حول شخصيته الآسرة وسيرته الفريدة، أما في كتابي فقد حرصتُ على تقديم دراسة نصيّة متكاملة لكتبه وفق تسلسلها الزمني، وتوصلتُ إلى نتائج جديدة بيّنت قصور القراءات القديمة التي قام بها عدد من الأدباء والنقاد الكبار وقدمت بدلاً منها قراءات جديدة تعيد تفسيرها وتبيّن مواطن الإبداع فيها، كما قدمت رؤية جديدة لفكر جبران وتطوره منذ كتابه الأول حتى ذروة نضوجه في كتابه “النبي” الذي قدمتُ له قراءة جديدة تخالف السائد المستقر، لاسيما فيما يتعلق بمقولاته الرئيسة وعلاقته مع كتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت” والأهم أنني بحثتُ في الإضافات الإبداعية التي قدمها جبران للكتابة العربية و ريادته الحقيقية لقصيدة النثر وللقصة القصيرة جداً ورؤيته المتقدمة للغة الشعر والإبداع الشعري، وبذلك فإن الكتاب يقدّم صورة جديدة عن جبران وإبداعه تحثّ القرّاء، لا سيما من جيل الشباب، على الاهتمام به وإعادة قراءته من منظور عصري جديد.
*الشعر حرفة بالنسبة للإغريق، فكلمة شاعر تعني عندهم الصانع، فهل كان الشعر بالنسبة لك حرفة؟
**أعتقد أن وصف الشاعر بالصانع يعود إلى أن العمل الشعري لا يمكن أن يقوم على الموهبة وحدها، بل لا بد له من (الصناعة) الفنية التي تعني العمل على البناء الواعي للنص الشعري، لذلك وجدنا إليوت في العصر الحديث يصف الشاعر إزرا باوند بالصانع الأمهر، أما الحرفة بمعنى المهنة التي يعيش منها المرء فأعتقد أن العصر الحديث لا يترك فرصة للشاعر أن يتفرّغ لشعره، فلا بد للشاعر من مهنة يمارسها وينخرط بها في الحياة كي يكون قادراً على التقاط سمات العصر ومعاناة الناس وتمثيل مشاعرهم وتطلعاتهم، وعندما اخترتُ الطب مهنة لي فقد اخترته بشكل واع لأنه يضعني في تماس مباشر مع أوسع شرائح المجتمع وفي أوضح حالاتهم الإنسانية مما يساعدني في التقاط الأسس التي أقيم عليها مشروعي الشعري.
*تقول في أحد حواراتك: “الشاعر هو الذي يستطيع أن يعبّر عن أعلى مشاعر ورؤى وتطلعات الجوهر البشري برمته” فهل تعتقد أن شعراء اليوم يتمتعون بهذه الصفات؟
**تتوقف الإجابة على تحديد ما نقصده من كلمة شعراء اليوم، فإذا كنا نقصد الشعراء الحقيقيين، وهم موجودون بيننا بالرغم من قلّتهم كما هو الحال في جميع العصور فهم قادرون على أن يكونوا صوت الجوهر الإنساني بحق، أما إذا كان المقصود بشعراء اليوم الذين يملؤون صفحات التواصل الاجتماعي ويتهافتون على المراكز والنوادي والتجمعات ففي غالبيتهم لا يتمتعون بهذه الصفات ولا بغيرها من صفات الشاعر أو المبدع.
*متى تتحول علاقة الشاعر بالناقد الذي فيك إلى علاقة خلاقة؟ ومتى تتحول إلى علاقة سامة؟
**لا بد لأي شاعر يريد أن يحقق وجوده المتميز في الساحة الشعرية من أن يحمل في إهابه ناقداً خبيراً بأدوات العمل الشعري ونظرياته ومطلعاً على الإنجازات الشعرية السابقة في تراثه وفي ثقافات العالم ومراقباً لما ينتجه زملاؤه الشعراء المعاصرون وقادراً على اكتشاف إضافاتهم الإبداعية، إلا أن هذه العلاقة قد تحدُّ من إبداع الشاعر إذا أصبح همّه الوحيد أن يعمل على تصنيع نصه وفق المقاسات المرسومة على قصائد الآخرين حتى لو كانوا من أعظم شعراء الشرق والغرب لأنه بذلك يكون قد تنكّر لصوته الخاص ووقع في محظور التقليد الذي هو العدو الأكبر للعمل الإبداعي.
*الحديث عن تجربتك الشعرية الغنية إلى أي ناقد تحتاج برأيك؟
**أعتز بأن تجربتي الشعرية قد حظيت بكثير من الاهتمام وكتب عنها كبار النقّاد العرب، إلا أنها ما زالت قابلة للبحث والدراسة والقراءة المختلفة مثلها مثل أية تجربة شعرية أخرى، وفي اعتقادي أن الناقد المثالي المؤهل لدراسة الشعر ونقده لابد له من أن يكون صاحب ثقافة موسوعية وفكر فلسفي ناضج، وأن يكون مطلعاً على تاريخ الفن الشعري والمناهج النقدية والمدارس الشعرية العربية والغربية، وأن يكون خبيراً بأدوات الشعر وأبوابه وأساليبه، والأهم أن يمتلك حسّاً سليماً يمكّنه من تذوّق النص الشعري وقادراً على التحليل والمقارنة ووضع النص في مكانه المناسب في لوحة الإبداع الشعري، وهذه الصفات هي التي يجب أن يحرص نقادنا على اكتسابها كي يقوموا بالدور المنوط بهم في مواكبة الحركة الشعرية وإغناء الثقافة العربية.
* يشير النقاد إلى حالة التطابق الفريدة بين ما تكتبه وتبدعه وما تعيشه، فكيف يصل الشاعر إلى هذه المرحلة؟
**هناك مسألتان مهمتان في هذا الصدد لا بد من الإشارة إليهما، تتجلى الأولى في ضرورة أن لا يكتب الشاعر إلا عن تجاربه الحياتية التي يعيشها فعلاً ويشعر أنها جديرة بأن تتجسّد في قصيدة تحمل ما اعتراه إزاءها من مشاعر وهواجس تستحق أن ينقلها إلى المتلقي كي يشاركه فيها، وبالتأكيد فإن تجربة مثل هذه لن تكون متاحة للمرء إلا في زمانها ومكانها المحدّدين، أما الذين يكتبون عدة (قصائد) في الأسبوع الواحد أو اليوم الواحد أحياناً فلا أعتقد أنهم ينطلقون من تجارب خاصة بهم لأنه لن يتاح لهم أن يعيشوا تجارب متعددة في الأسبوع الواحد، ومن ثم فإن نصوصهم لن تكون أكثر من تنويعات على تجارب استعاروها من قراءاتهم للآخرين، لذلك فهي لن تشبههم بأي حال من الأحوال، أما المسألة الثانية فهي أن يحرص الشاعر في تعبيره عن تجربته الخاصة على أن يكون مخلصاً لصوته الخاص بنبرته وسماته وتلويناته دون أن يستعير من الآخرين أصواتهم، فلا أحد يستطيع التعبير عن تجربتك إلا إذا عبّرت عنها بصوتك الخاص.