ناس ومطارح.. أبو مؤيد: جدارية شعرية مؤجلة تحت جسر “الرئيس”
البعث الأسبوعية- تمّام بركات
كما لو أنه من أساسات المكان، سترونه هناك لا ريب، وفي أي وقت، تقريبا، وإن حدث وجئتم ولم تروه، فما عليكم سوى النداء: أبو مؤيد، وها صوته يسبقه من بين صفوف الكتب التي تحيط به وعلى عدة أنساق متقاطعة، بدت أولا كمتاهة، ثم صار لها شكل موقف مؤجل، ينتظر فيه الرجل، أحلاما أرسلها لتشتري التبغ، ولمّا تعد بعد.
وصل صوته أولا: هون، هيني جاي.
ثم يظهر السيد محمود حسن، 68 عاما-من خلف دخان سيجارته الحمراء الطويلة، وفي يده عدة كتب، ليست واضحة العناوين، لكن يمكن أن أميز بسهولة، كتاب “الأمير” لميكافللي.
الحدود التي في جبهته صارت أكثر عمقا، وقامته النحيلة مالت للأمام قليلا، إلا أن صوته الذي سمعته لأول مرة عام 1997، لا زال صافيا وأليفا على حاله، عكس بقية أحوال صاحبه التي تغيرت كثيرا وبشكل محزن.
منذ أكثر من ربه قرن، رأيته للمرة الأولى،جالسا على كرسي خيزران صغير عند سور “سوق المهن اليدوية” وخلفه ترتفع تلال من الكتب بعد أن عمد إلى وضع العديد منها بشكل عمودي، نظرا لعنوانيها المغرية التي تجذب القراء عادة” الأخوة كارمازف- مئة عام من العزلة، في انتظار هوغو- سأخون وطني” وغيرها الكثير من روائع الأدب العربي و العالمي، التي حرص أبو مؤيد على تأمينها لزبائنه المفضلين حتى لو اضطره الأمر الذهاب إلى حلب لهذا، وهو لا يذكر عدد الساعات التي قضاها مسافرا بين المحافظات السورية، في بحثه مكتبات مهملة، بعد أن مات أصحابها، وورثها أبناء لا تعنيهم، بل أحيانا تكون عبئا عليهم، ولا يعرفون كيف يتخلصون منها، وكان للرجل أن انقذ عدة مكتبات ضخمة وهامة من التلف أو الرمي، أو البيع بالكيلو.
مكتبة الرصيف التي كان يشغلها أبو مؤيد وغيره من باعة الكتب على الرصيف، في دمشق شارع الحلبوني، تغير موقعها بعد أن تقرر أن تتجمع تلك المكتبات المتنقلة في مكان واحد، وهكذا ذهب أبو مؤيد ولحقته كتبه، حيث استقر بهم المقام، تحت جسر “الرئيس”، ولا يزال حتى اليوم دون عطلة، فالعطل “مزحة” للدراويش كما يقول.
في حديث أكثر من ودي، عن ما الذي يدفع برجل مثله، للبقاء حيث هو في مكانه، رغم ما يعتمل في هذا المكان من أحداث تبقيه قرب العاصفة، او في أتونها، خصوصا وأن له أبناء في الخارج، توقعت جوابا كلاسيكيا، لكنه الكاتب محمود حسن، أجاب وبكل ببساطة ويسر “بختنق ما فيني” ثم بدأ بقراءة قصيدة نُشرت في مجلة الأدابالبيروتية، ثمانينات القرن الماضي، يحكي فيها عن أمسية جمعته بعدة أصدقاء، كان بينهم امرأة إيطالية، راحت تغازله، بما كان منه إلا ما يكون من الفلسطيني العاشق، يرمي قلبه وردة مشتعلة، ولكن بحذر.
مرت في حياة أبو مؤيد الكثير من الأحداث السياسية الكبرى، التي غيرت وجه الحياة في بلده، سواء في يافا أو في دمشق، وكانت كل مرحلة من تلك المراحل التي خاضها الرجل، خصوصا خلال الاجتياح الصهيوني لبيروت 1982، ومن خلف أحد المتاريس المتقدمة، كان الشاب محمود، يوجه شعيرة البندقية، وفي اللحظة التي تستقر فيها على العدو، كان بيتهم في فلسطين يلمع في عينه، فيطلق وكأنه يرمي شبكة كبيرة، بمقدورها أن تصطاد كل “العفن” الذي وضعته بريطانيا في بيته، عوض الليمون.
تجارة أبو مؤيد، ليست بالتجارة الرابحة، بل إنها لم تعد تجارة أساسا، فمن بين آلاف العابرين يوميا للمكان، لا يوجد إلا نسبة ضئيلة من الذين يتوقفون ويشغلهم كتاب ما، لكن للرجل زبائنه الذي لا زالوا على عهدهم بالكتاب، وهؤلاء بنظره، يستحقون أن يبقى حيث يمكن أن يجده من يريده، تحت جسر “الرئيس” بين كتبه أبدا.