أكثر من حياة
سلوى عباس
كثيراً ما يحضر السؤال حول الإبداع وعلاقته بالأخلاق، هل هما منفصلان أم متلازمان، فأغلب الذين نقرأ أعمالهم الأدبية فنقتني كتبهم وتأخذنا تعابيرهم وحياتهم التي ينسجونها على الورق ويمنحون شخصياتهم بعضاً من روحهم وذاتهم، هم غيرهم عندما نتعرف إليهم ونتعامل معهم ونلتقي وإياهم في مناسبات كثيرة، وننسى أنهم يكتبون على ورق، ومن ورق، وأنهم لا يكتبون أنفسهم، فلو أنهم كتبوها لكانوا عرفوها، فهم يعوضون نزقهم ومزاجيتهم بمثاليات وأوهام على الورق، لذلك ينسون أنفسهم ويكتبون ما يحب الناس قراءته، فهل ينظر هؤلاء لإبداعهم كحالة تعويضية عن اختلال القيم التي يعيشونها، معتبرين أن ما يحق لهم لا يحق لغيرهم على اعتبار أنهم رواد المجتمع بما ينتجون من ثقافة وأفكار، متناسين أن المبدع جزء من أفكاره، وأفكاره جزء من أخلاقه كلها تكمل بعضها بعضاً.
هناك حالات كثيرة نرى أصحابها لا ينتمون لما ينادون به ويتصرفون بعكس ما يؤمنون، فكيف لهم لا يحترمون مداد القلم الذي يفترض أنه يحمل بعضاً من روحهم يسطرونه على أوراق ستكون إرثاً لأجيال كثيرة، ومن الضروري أن تنظمها المصداقية حتى تكون مرجعاً حقيقياً يغني الفكر والروح معاً، كيف لا يكونوا مخلصين له ويعيشون إبداعهم سلوكاً وفكراً بعيداً عن الانتهازية والمحاباة التي استشرت في الوسط الأدبي والثقافي، فهناك أشخاص متسلقون يستثمرون أي موقف قد يحصلون منه على أي مكسب حتى لو كان على حساب الآخرين مهما كانوا قريبين منهم، فالثقافة حالة رقي نعيشها بممارساتنا الحياتية، والإبداع ملازم للأخلاق ولا ينفصل عنها حتى يبقى المبدعون قدوة لمجتمع ينهض بأبنائه وبثقافتهم وقيمهم التي يتمثلونها وتكون عنواناً لفكرهم، فما يميز الإبداع انفتاحه على كل المجالات والفنون، لكن ما نراه من سلوك وممارسة يقوم بها مبدعونا تجعلنا نتساءل عن الغاية التي يحققونها من ذلك، وما الفائدة التي يجنونها، ففي مجال الإعلام مثلاً نرى تصرفات بعض الصحفيين مع زملائهم لا تليق برسالتهم الإعلامية والثقافية والأخلاق المهنية التي يفترض أنها الناظم لعملهم، ونراهم في سباق محموم للاستئثار بأي مهمة أو نشاط ثقافي، وتبدأ السباقات بينهم بحجة تحقيق سبق صحفي، فيبدو الأمر وكأن هذا الانجاز لهذا الصحفي أو ذاك سيكون الأول والأخير في رصيده الصحفي، وان الفرصة إن فاتته الآن لن تأتيه مرة أخرى، وهذا يتنافى مع أخلاقيات العمل الإعلامي والإبداع ككل، فالساحة مفتوحة للجميع ليقدم كل شخص ما لديه من أفكار وآراء لتتلاقى مع الثقافات الأخرى، وتشكل في النهاية قيماً إبداعية تتسم بالموضوعية والمنطق، فلماذا هذا السعي لإلغاء الآخر لنظهر نحن، ومن أعطانا الحق بهذا، وكيف لأي إبداع أن يتميز إن لم يقابله إبداع آخر يحقق معادلة التعددية والتنوع الفكري في مناخ صحي وإيجابي يوظف لخدمة الثقافة والإبداع، فهل لنا ونحن في زمن الانفتاح الفكري والثقافي أن نتحلى بالوعي والموضوعية، ونتجاوز أفق أنانيتنا ونعترف أن الثقافة تقوم على التمازج الفكري وقبول الآخر كما هو، بعيداً عن احتكاره وتوظيف فكره ومفاهيمه في إطار فهمنا وثقافتنا فيكون صورة طبق الأصل عنا، فالاختلاف حالة ايجابية وضرورية ولا تُفسد للود قضية.
علينا أن نعي أن للتجربة ثمناً والناس لا يتعلمون إلا من تجاربهم، ولكي نحيا كبشر نمتلك أفكارنا وقناعاتنا علينا أن نترجمها على أرض الواقع حقيقة ملموسة لا أن تبقى شعارات و”كليشهات” نستعرضها في لقاءاتنا مع الناس، فتجاربنا أياً كانت هي سلاح ذو حدين إذا لم نوظفها في مكانها الصحيح تكون سبب دمارنا ودمار الناس من حولنا، ولكي نعيش تجاربنا علينا أن نتنازل وندفع كثيراً، لنكسب قليلاً، والمشكلة أننا لم تعط لنا أكثر من حياة أو ربما لن نستطيع أن نعرف أو نتذكر أكثر من حياة لنقارن تجاربنا مع تجارب أخرى ربما تتقارب مع تجربتنا، وربما تختلف، وعودة للسؤال الأول: أمام كل ما نعيشه من متناقضات كيف يمكننا أن نتخلص من الموروثات التي علقت بذاكرتنا وبأرواحنا، فهل نحتاج لأكثر من حياة؟.