حرب تشرين التحريرية…. السر كان في المبادأة
قسم الدراسات
لأول مرة تنتقل المبادأة في حرب تشرين التحريرية من الجانب الصهيوني إلى الجانب العربي بعد تنسيق وتعاون بين القوات المسلحة العربية السورية والمصرية، وإسهام قوات من الدول العربية الشقيقة، مؤكدة قومية المعركة المصيرية مع العدو الصهيوني.
لقد كان من أهم الأسباب المباشرة لحرب تشرين التحريرية هو تهرب العدو الصهيوني، بعد حرب حزيران 1967 وصدور قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22/11/1967 القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها وتجميد الوضع الراهن، من تطبيق ذلك القرار بالتسويف والمماطلة. ونتيجة لهذا التعنت الإسرائيلي أخذت مصر وسورية تعدان العدة لاسترجاع أراضيهما المحتلة بالقوة، فعوضتا خسائرهما وركزتا جهودهما على إعادة القدرة القتالية لقواتهما وزيادة تسليحها، ودخلتا في صراع مسلح مكشوف ومحدود لإنهاك القوات الإسرائيلية وإجبارها على التخلي عن المناطق المحتلة في معارك محلية وقصف جوي ومدفعي على طول الجبهتين الشمالية والجنوبية فيما سمي “حرب الاستنزاف”، وقد دخلت مصر هذه الحرب يوم 8/3/1969، في حين لم تتوقف أصلاً على الجبهة السورية منذ حرب حزيران 1967. ونشطت في هذه الأثناء أعمال المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، وبرزت قوة فاعلة أدهشت المراقبين وأنعشت آمال الأمة العربية، وأصبح الجو مهيأً لجولة تحرير جديدة هي حرب تشرين 1973.
وفي الوقت المحدد، انطلقت على الجبهة المصرية أكثر من مئتي طائرة قاذفة ومقاتلة، وعلى الجبهة السورية انطلقت في الوقت المحدد نفسه 140طائرة قاذفة ومقاتلة، موجّهة الضربة الجوية الأولى السورية إلى القوات الإسرائيلية على جبهة الجولان وفي العمق الإسرائيلي، ثم تلاها تمهيد مدفعي عنيف، انطلقت إبانه القوات السورية إلى الهجوم بحسب الخطط الموضوعة.
وقد نجحت القوات السورية إبان التمهيد المدفعي في اقتحام مرصد جبل الشيخ بمجموعة من القوات الخاصة، وفي اقتحام خط آلون، وطمر أجزاء كبيرة من الخندق، باتجاه القنيطرة وباتجاه الخشنية (العال). وتمكنت هذه القوات من اقتحام الدفاع الإسرائيلي في أكثر من قطاع، وشهدت جبهة الجولان على مدى ثلاثة أيام معارك ضارية بالدبابات والمشاة استمرت ليلاً نهاراً، ووصلت الدبابات السورية إلى كفر نفاخ وجسر بنات يعقوب وشارفت على طبرية، في حين تمكنت قوات أخرى من دخول القنيطرة بعد أن تكبد الطرفان خسائر فادحة. لكن لم تتحمل الدول الاستعمارية هذا الحجم من الخسارة، فأرسلت تعزيزات ضخمة إلى ميدان المعركة، وقد ركزت القيادة الإسرائيلية جهودها الاستراتيجية على جبهة الجولان لتقديرها أن الهجوم السوري يهدد مصير الكيان الصهيوني كله.
بعيداً عن تفاصيل الربح والخسارة، يمكن لأي متابع أن يدرك بأن أهم النتائج العسكرية كانت بإحداث تبدل حقيقي في مفهوم الصراع المسلح الدولي والمحلي، وتداعى الخبراء والمنظرون العسكريون والسياسيون من الشرق والغرب لدراستها واستخلاص الدروس المستفادة منها، وما أحدثته من تغيرات في مفاهيم الاستراتيجية والتكتيك والتسليح.
اتصفت المعارك التي دارت على الجبهتين السورية والمصرية بضراوتها وسرعة تبدل المواقف واستمرارها ليلاً نهاراً من دون توقف، وقد استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة التقليدية والمتطورة. ومن أهم سمات تلك الحرب اقتحام المانع المائي في قناة السويس وخرق المنطقة المحصنة في الجولان، وكذلك انتقال زمام المبادأة إلى الجانب السوري المصري لأول مرة بعد حرب 1948.
وأثبتت حرب تشرين ما يتمتع به الجندي العربي من شجاعة وخبرة ومهارة في استخدام الأسلحة المعقدة واستعداد للتضحية في سبيل قضية عادلة، كما أسقطت الأسطورة التي روجها العدو عن جيشه الذي لايقهر. وقد هزت الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بـ “إسرائيل” كيانها بعنف وأصابتها بصدمة مازالت آثارها حتى اليوم رغم الدعم الأمريكي غير المحدود، وبرهنت عن أن هزيمة هذا الكيان اللقيط لاتتحقق إلا بحرب استنزاف طويلة الأمد تستنزف طاقتها البشرية والمادية والمعنوية.
أما في النتائج السياسية، فقد أكدت حرب تشرين قومية الصراع مع “إسرائيل” والصهيونية العالمية، وأن طريق تحرير الأرض هو توحيد كلمة العرب في خندق الصراع، وأسهمت في زيادة ثقة الشعوب العربية بكيانها ورفع معنوياتها وأزالت نكسة حزيران 1967، وأثبت سلاح النفط العربي الذي استخدم في المعركة فاعليته وتأثيره في الاقتصاد العالمي عامة والأمريكي خاصة، كما برهنت مساهمات الدول العربية في الحرب عن الطاقات الكامنة غير المحدودة للأمة العربية وحاجتها إلى التنسيق والتنظيم، وتجنيد تلك الطاقات ضمن استراتيجية عربية واحدة توفر للشعوب العربية الأمن والسلام، وتضمن لها استعادة حقوقها المغتصبة وتحرير الأرض العربية والإنسان العربي.