انحسار مياه الساحل السوري والبحر المتوسط.. هل هناك ما يدعو إلى القلق؟
دمشق _ حياة عيسى
في الوقت الذي اعتدنا فيه منذ عقود وسنوات عديدة التحدثَ عن مخاطر ارتفاع مستوى سطح البحر المتوسط الناتج عن ظاهرة الاحتباس الحراري، مهدداً العديد من الدلتات والجزر والمدن الساحلية في البحر المتوسط بالغرق، نتفاجأ بشكل غير معهود بظاهرة انحسار سواحل البحر المتوسط بمعدل 30 – 50 سم على العديد من شواطئه، وقد ظهرت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ بعد زلزال تركيا وشمال سورية؛ أي بتاريخ 9 شباط 2023.
وبينت الدكتورة نور كيالي دكتورة في قسم الجغرافيا في جامعة دمشق أنه ظهرت العديد من التحليلات والتفسيرات لهذه الظاهرة، منها ما تم ارجاعها للعوامل المناخية، ومنها ما أرجعت للعوامل الجيولوجية أو الفلكية، ولكن، ما السبب الحقيقي وراء انحسار مستوى ساحل البحر المتوسط، ومنها السواحل السورية؟ وطبعاً هنا لابد من إلقاء نظرة شاملة على تاريخ تباين منسوب ارتفاع مستوى سطح البحر المتوسط من القدم حتى الوقت الحالي، محاولين تحديد سبب انخفاض مستوى سطح البحر المتوسط على كل شواطئه دفعة واحدة من جميع الجوانب، حيث شهد البحر المتوسط خلال الأزمنة الجيولوجية المختلفة حتى وقتنا الحالي تذبذباً كبيراً في مستوى سطحه، فمع ازدياد حجم مياه البحار خلال الزمن الجيولوجي الثالث تبعاً لانبثاق المصهورات اللافية التي صاحبت الحركات الألبية نجد أن منسوب سطح البحر المتوسط تعرض للانخفاض التدريجي منذ منتصف الزمن الجيولوجي الثالث حتى العصر الحديث؛ لانتشار السلاسل الجبلية الميوسينية على جوانب المحيطات من جهة، وتعرض قاع البحار لعمليات الهبوط التدريجي من جهة أخرى، وبعد ذلك تناوب منسوب سطح البحر المتوسط ما بين الانخفاض خلال الفترات الجليدية الباردة، والارتفاع عند ذوبان الجليد خلال الفترات الدفيئة، ففي بداية عصر البلايستوسين كان مستوى سطح البحر المتوسط أكثر ارتفاعاً عن منسوبه الحالي بنحو (100) m، وخلال مدّة الجينز الجليدية انخفض مستواه نحو (-10) m، وخلال المدّة الدفيئة (جينز – مندل) ارتفع مستواه من جديد إلى نحو (55) m، ثم تذبذب مستواه بين ارتفاع وانخفاض. ثم أخذ مستوى البحر المتوسط خلال (12) ألف سنة الماضية يرتفع؛ بسبب ذوبان الجليديات، وبلغ مستوى البحر المتوسط أعظمه سنة (4000) ق.م، لكن حدثت بعدها مراحل تبريد فأصبح الجليد بين مدّ وجزر حتى عصر الهولوسين، الذي ما زلنا نعيش فيه الآن.
مراقبة تغير مستوى سطح البحر
وفيما يخص طبيعة التغير الحالي في منسوب البحر المتوسط، فقد اكدت كيالي أنه يتم متابع منظومة مراقبة تغير مستوى سطح البحر العالمية Global Sea Level Observing System (GLOSS)- التي تعد من أهم منظومات العالمية لمراقبة تغير مستوى سطح البحر الحالي- تغير مستوى سطح البحر المتوسط من خلال العديد محطات لها على البحر المتوسط، منها (Antalya، Dubrovnik، Tarifa، Malaga، Alexandria، Trieste، Genova، Marseille) وحُددت ارتفاعات مستوى سطح البحر لمدة (72) سنة، ولمدة أقل من ذلك في بقية المحطات. علماً أن تغيرات مستوى سطح البحر ﺑ (mm) المتوسط في محطات مختارة من عام (1944 – 2016)، فقد تبين أنه بين عامي 1960 و1989، انخفض مستوى سطح البحر المتوسط بمعدل قدره -0.3 ± 0.5 ملم في السنة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى شذوذ إيجابي في الضغط الجوي فوق البحر المتوسط؛ أي زيادة الضغط الجوي فوق الحوض وتعارض المساهمات الديناميكية والكتلة الأرضية، وهذا دفع المياه إلى خارج الحوض، وبعد عام 1989، بدأ مستوى البحر المتوسط يتسارع، مدفوعًا بالتغيرات الديناميكية وفقدان الجليد الأرضي، إذ وصل إلى معدل قدره 3.6 ± 0.3 ملم سنويًا في المدّة 2000-2018، و منذ عام 2000، ارتفع مستوى سطح البحر ارتفاعًا أسرع في البحر الأدرياتيكي، وبحر إيجة، والبحر المشرقي مقارنة بأي مكان آخر في البحر المتوسط.
وأشارت العديد من الدراسات حسب كيالي إلى مستقبل التغير في منسوب البحر المتوسط، منها التقرير الذي نشره المركز القومي للبحوث الجوية في الولايات المتحدة (NCAR) آخذاً بعين الاعتبار كل غازات الاحتباس الحراري، الذي أشار إلى زيادة في درجة الحرارة في عام (2050) يُراوح بين (1،5 – 4،5) C° يقابله ارتفاع في مستوى سطح البحر بين (20 – 140) cm، وكذلك الدراسات التي تنبأت بطبيعية التغير المستقبلي لمستوى سطح البحر التي قدمتها الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC، التي أشارت جميعها إلى ارتفاع مستوى البحر المتوسط في المستقبل، لكن خلافًا لكل هذه التوقعات حدث هذا الانحسار المفاجئ لمياه البحر المتوسط على جميع شواطئه دفعة واحدة، يعود لمجموعة من الأسباب منها الأسباب المفترضة لانخفاض مستوى سطح البحر المتوسط عقب زلزال تركيا وشمال سورية، منها ظاهرة المدّ والجذر التي تعد ظاهرة طبيعية من مرحلتين تحدث لمياه المحيطات والبحار، مرحلة المد التي يحدث فيها ارتفاع وقتي تدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، ومرحلة الجزر التي يحدث فيها انخفاض وقتي تدريجي في منسوب مياه سطح المحيط أو البحر، وإن كانت الشمس والقمر والأرض على الخط المستقيم نفسه يؤدي ذلك إلى ظاهرة المدّ الكبرى، وهي تحدث على الساحل السوري في يومين متتاليين من شهر كانون الأول وفق دراسة (كيالي: 2019)، لكن هذا السبب لا يُعدّ كافياً لتفسير هذا الانحسار المفاجئ عن سواحل البحر المتوسط كلها في وقت واحد، فعندما ترتفع المياه بسبب ظاهرة المد في منطقة ما تنحسر المياه في منطقة أخرى؛ لأن كتلة المياه ثابته، أي عندما تكون الشواطئ الشمالية مثلاً بمرحلة المد تكون الشواطئ الجنوبية بمرحلة الجزر، والعكس صحيح، إضافة إلى ظاهرة ارتفاع الضغط الجوي وظاهرة الإعصار العكسي الذي يعتبر في علم الأرصاد الجوية ظاهرةٌ مناخية تشير إلى مناطق الضغط الجوي المرتفع، بحيث تتحرك الريح دُواميّة فوق تلك المناطق، وذلك مع عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي وعكس عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي؛ إذ أدى تأثير الضغط الجوي الذي شهد ارتفاعاً بلغ 1035 HPA”على البحر المتوسط في بداية شهر شباط، إلى اضطراب في حركة مياه البحر وتقليص مستوى سطح البحر بنحو 22 سنتيمتراً.
تفسير الانحسار
ولا يُعدّ هذا السبب كافياً حسب _ كيالي_ لتفسير الانحسار المفاجئ عن سواحل البحر المتوسط كلها في وقت واحد، فهذه الظاهرة معتادة وتحدث سنويًّا في فصل الشتاء، لكنها لم تؤدِّ في أيٍّ من المرات السابقة لها الانحسار الذي نشهده اليوم، بالتزامن مع تناقص معدل الهطل السنوي لهذا العام، حيث شهدت الدول الأوروبية انخفاضاً في كمية الهطل السنوي، وما رافقه من انخفاض في الصبيب النهري المغذي للوارد المائي للبحر المتوسط، لكن أيضاً لا يعد هذا السبب كافياً لتفسير الانحسار المفاجئ عن سواحل البحر المتوسط كلّها في وقت واحد، إضافة إلى أسباب جيولوجية وهي حدوث صدع في قاع البحر نتيجة انزياح الصفيحة العربية وتصادمها مع الصفيحة الأناضولية، وهذا ما أدى إلى زلزال تركيا وشمال سورية واتساع قاع حوض البحر المتوسط، فأدى هذا الصدع في قاع البحر إلى تسرب مياه البحر المتوسط لملئه، فنتج عن ذلك انحسار مستوى المياه المفاجئ عن سواحل البحر المتوسط كلّها في وقت واحد. ويمكن إثبات هذه النظرية بدراسات جيولوجية معمقة والاستعانة بصور الأقمار الصناعية.
وهنا سؤال يطرح نفسه هل هناك من داعٍ للقلق؟ حيث اكدت الدكتورة كيالي أنه وفقًا للمركز الوطني للإنذار بأمواج المدّ البحريّ تسونامي (CENALT)، يحدث تسونامي بسبب زلزال تحت الماء بقوة 6,5 درجات على الأقل، وابتداءً من 8 درجات يمكن أن يكون المدّ البحري المتولّد مدمّراً، وفي معظم الحالات، يسبق الموجة الأولى للتسونامي انخفاض سريع في مستوى سطح البحر، وفي هذا السياق… لو كان من الممكن أن يتشكّل تسونامي عقب زلزال تركيا وسورية، لوقع ذلك منذ مدّة، أي بعد الزلزال مباشرة؛ ولأن الصدع الزلزالي يقع في البرّ وليس في البحر، فإن إمكان حدوث مد بحري مدمر ضئيلة للغاية.
الطبيعة توازن نفسها!
كما أشارت كيالي أنه لوحظ بعد الحادثة بدأ عودة المياه تدريجياً إلى منسوبها السابق، بسبب عملية التعويض المائي؛ نتيجة لارتباطات البحر المتوسط المائية بالبحار والمحيطات المجاورة، ففي طبيعة الحال يتصف البحر المتوسط بموازنة مائية سالبة، ويقدر العجز المائي السنوي للبحر المتوسط ﺒ (1700) كم3 وفق دراسة (كيالي: 2016)، وهذا العجز يعد من مسببات انخفاض مستوى سطح البحر سنويًّا لولا عملية التعويض المائي نتيجة لارتباطات البحر المتوسط المائية بالبحار والمحيطات المجاورة، إذ يشكل التبادل الأساسي مع المحيط الأطلسي عبر مضيق جبلطارق (90) % من الموازنة المائية المتوسطية، أمّا التبادل المائي مع البحر الأسود عبر مضيق البوسفور فإن كميته أقل بكثير ولا تتجاوز (0,5) % من الموازنة المائية المتوسطية، وأمّا التبادل المائي مع البحر الأحمر عبر قناة السويس فتعد حديثة وقليلة الأهمية للموازنة المائية, إذ لا تزيد كمية الوارد المائي على (5) كم3/السنة.