مجلة البعث الأسبوعية

د.محمود زين العابدين: الشهباء والفيحاء عراقة التراث العالمي والإباء

 

غالية خوجة

أن تكون ثقافة العمارة وفنونها وتأريخها موضوعاً لحوار “البعث الأسبوعية” مع الباحث المهندس الدكتور محمود زين العابدين عضو هيئة التدريس بكلية العمارة، فهذا يعني أننا سنعود إلى المستقبل من خلال الماضي، وستدلنا العمارة على المكونات الحياتية الحلبية والسورية والعربية والإسلامية، فماذا تحدثنا د.زين العابدين عن ذلك؟

تفاعل بين الحضارات

بالطبع لا يمكن أن نخطط ونصمم عمارة مستقبلية وحديثة دون معرفة وفهم الحضارات السابقة التي توالت وتعاقبت على منطقتنا العربية،فبالإضافة إلى الطرز التي حملتها “مهد الحضارات”، نلاحظ كيف شهدت مدينة حلب الكثير من الحضارات المتعاقبة، التي تأثرت من بعضها البعض، فمثلاً، العمارة الإسلامية تأثرت بالحضارات السابقة، ومنها النواحي الإنشائية كطريقة التسقيف بالقباب والأقبية المتقاطعة، واستخدام البلاطات الخزفية، وظهرت تأثيرات محلية على العمائر التي حملت طرزاً مختلفة في مدينة حلب التي اتسمت بيوتها بفناء واسع تتوسطه بركة ماء، وتعدّ العمارة التقليدية عمارة بيئية مناخية اجتماعية وتراثاً لفن إبداعي عريق أدى وظيفة حضارية مستمرة في شكل تصاميمه المحلية وحلوله المعمارية المتكاملة على امتداد الزمن.

المدرسة بيت عربي

ما أهم المؤثرات في حياتك؟ وكيف تعلقت بالعمارة هندسة وبحثاً وتدريساً؟

قال: تبدأ العلاقة التفاعلية بين الانسان والمكان منذ الطفولة، فالمكان يصنع المشاعر والعواطف ومكونات الإنسان النافذة إلى الكون، وهكذا تعلقت بحلب وأحببت التراث العمراني، ونشأتي في بيت تقليدي في حي تقليدي ساهمت في تكوين بنية من العلاقات المتينة بين الأفراد والجوار والمجتمع، وصولاً إلى المدارس التي تلقيت فيها تحصيلي العلمي وبنائها التقليدي العريق، إضافة إلى عملي الأكاديمي الذي أعتبره من أجمل محطات حياتي خصوصاً مع جيل الشباب، بينما ركزت على حلب وعماراتها في معظم مؤلفاتي وبحوثي ومعارضي للصور الفوتوغرافية ومشاركاتي بالمؤتمرات الدولية والندوات والمحاضرات.

أسرار فن العمارة الحلبية

وعن أهم أسرار فن العمارة الحلبية، أجاب: تتميز حلب بثراء نسيجها العمراني وتنوع وظائفه بين دفاعي وسكني وخدمي، ويبدأ تفاعل الإنسان بالمكان من المسكن وبيوت الحي المتلاصقة فيما بينها بأزقة ضيقة متعرجة تزرع الأمان والتواصل بين سكان الحي الواحد، كما يمثل المركز التجاري بحلب قلب المدينة النابض، فتنتشر الأسواق بذاكرة مدنية واجتماعية وحضرية وثقافية، وترتبط فيما بينها بعدد من الخانات والقيساريات، ونجد في مركز المدينة المباني الدينية من جوامع وزوايا وتكايا ومساجد وكنائس، إضافة إلى المباني الخدمية كالحمامات والبيمارستانات.

ثراء النسيج العمراني

أمّا ما رآه من تشابُهٍ بين حلب الشهباء ودمشق الفيحاء فهوالعراقة والثراء في النسيج العمراني مع وجود بعض الاختلافات في أسلوب البناء والطرز التي تم استخدامها، إذ تعدّ مدينة دمشق أقدم عاصمة مأهولة في العالم ما زالت نابضة بالحياة، وكذلك مدينة حلب، وتعتبران من أهم المواقع المسجلة كتراث عالمي.

الترميم يعيد المعالم الهامة

وعن إعادة البناء والإعمار في حلب، قال: شهد النسيج العمراني لمدينة حلب أضراراً متفاوتة، فمنها ما دمر بالكامل ويحتاج لإعادة بناء من جديد مثل مبنى التكية الخسروية، ومنها ما أصيب بدمار جزئي وقابل للترميم وإعادة التأهيل، وحركة إعادة البناء والإعمار زرعت في وجداننا الكثير من الأمل والتفاؤل وهي تتجاوز المعوقات والعقبات المختلفة، وجاء مرسوم السيد الرئيس بشار الأسد رقم 13 لعام 2022 مكرمة عظيمة، حاملاً حزمة واسعة من التسهيلات والإعفاءات التي توفر بيئة داعمة لأصحاب الفعاليات الاقتصادية بكافة أشكالها داخل مدينة حلب القديمة.

أسلوب تبسيط المعلومة 

وتابع متحدثاً عن تجربته الكتابية التي تجاوزت سبعة كتب: بعد تخرجيّ من جامعة يلدز التقنية وانتقالي للعمل في منطقة الخليج بدأت بإعداد أول كتاب عن عمارة البيت العربي التقليدي والبيت التركي التقليدي، معتمداً على الصور الفوتوغرافية التي التقطتها بعدستي والمخططات الهندسية، والذي صدر بعنوان “جولة تاريخية في عمارة البيت العربي والبيت التركي ـ السعودية عام 1998″، تلته مجموعة مؤلفاتي اللاحقة والتي صدر بعضها بلغات أجنبية، واعتمدت فيها سلاسة وبساطة المعلومة، إضافة إلى الصور الملتقطة بعدستي.

عمارة الغربة

وعن الغربة والاغتراب كعمارة نفسية، أجاب: أول اغتراب عن مدينة حلب كان بعد حصولي على الشهادة الثانوية وسفري لمدينة إستانبول بهدف دراسة الهندسة المعمارية، وتعدّ المرحلة الجامعية من أهم المراحل التي تساهم في تكوين شخصية الفرد، وهذا الانتقال ساهم في تعلقي بالعمارة التقليدية، وكانت تجربة جديدة ومفيدة ساهمت في الانفتاح على ثقافات العالم أجمع، لا سيما في مجال العمارة وحضاراتها وأشكالها وعناصرها وتقنياتها وتأثرها فيما بينها وكيف يحافظ فن العمارة على الإرث وتأريخ  الشعوب في مختلف أرجاء العالم.

ورغم تنقلي وعيشي في كثير من المدن العربية أو الأجنبية فإن لحلب وإستانبول أثر خاص، ودائماً أبحث عن حلب الأم في ديار الاغتراب، وكلما أحسست بالحنين إليها أتوجه لأسواق إستانبول التقليدية، وهذا مادفعني لتنظيم العديد من ورشات العمل المرتبطة بذاكرة المكان، والتي نتج عنها كتابات فلسفية وأشعار وأحلام وخواطر وذكريات وصور تم التعبير عنها من خلال لوحات قام بإعدادها الطلاب، إلاّ أن فكرة العودة والاستقرار بحلبتظل أمنيتي، لذلك، لم أنقطع يوماً عن حلب وأزورها سنوياً وألتقي بالأهل والأقارب والأصدقاء.

ذاكرة شادروان

أما عن مركز شادروان للتراث العمراني ومجلته الالكترونية، فأخبرنا بأنه أسسه عام 2008 بمدينة حلب، للحفاظ على التراث العمراني والتعريف به في سورية والعالم، كمحاولة للإسهام في عملية التنمية الثقافية، وتفعيل السياحة الثقافية، واستقطاب الباحثين بالتراث العمراني من خلال أعمال التوثيق والدراسات والإصدارات من أجل إعادة صياغة مفهوم التراثالذي يشكّل هوية المجتمع، ويعزّز وجوده وجذوره الحضارية والإنسانية.

ترميم الذاكرة يجذب العودة

وأكد د.زين العابدين على أهمية الحفاظ على هوية مدينة حلب المعمارية الواضحة والجذابة، رغم ضرر تدمير العشرية الذي شهده نسيجها العمراني وأثر سلباً على الهوية المعمارية والثقافية، واسترسل: أثّر الخراب والدمار سلبياً على المجتمع المحلي أيضاً، فكثير من العائلات السورية تفككت ورحل البعض ودفع الأطفال الثمن الأكبر، وبدأ ينمو ويكبر جيل جديد بعيداً عن حلب، ولا يملك أي ذكريات أو روابط أو مشاعر تجاه مدينته، وهنا، تكمن مسؤولية جديدة في ربط كل من غادر بمدينته حلب وحثه على العودة إليها من جديد.

وتابع: ترميم المبنى يشكّل عامل جذب لعودة كل من غادر المدينة، ونلاحظ شهراً بعد شهر كيف تستعيد مدينة حلب ألقها المعهود وأصالتها، والأمر يحتاج إلى تضافر جميع الجهود، فمهما قدَّم المرء لوالدته من عملٍ حسن فإنّه لن يبلغ عُشر ما قدمته له من تربيةٍ ورعاية وحب وحنان، فكيف إذا كان اسم هذه الأم هو حلب.

الجوائز مسؤولية

ما تأثير الجوائز التي نلتها محلياً وعربياً وعالمياً على مسيرتك؟

أجابنا: تشكل الجوائز حافزاً ومسؤولية لكثير من الكتاب والباحثين،وكنت ولله الحمد من الأشخاص الذين حصلوا على عدد من الجوائز المحلية والعربية والدولية، أولها على الصعيد المحلي جائزة الباسل للإنتاج الفكري في مجال التراث العمراني لمدينة حلب عام 2006، تلتها جائزة الشيخ زايد للكتاب – فرع المبدع الشاب عن كتاب”عمارة المساجد العثمانية2007 م”، وفي العام ذاته وعن الكتاب ذاته، جائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية ـ فرع التأليف والترجمة، وحصلت عام 2013 على جائزة منظمة المدن العربية ـ فرع المهندس المعماري، وفي عام 2016 حصلت للمرة الثانية على جائزة منظمة العواصم والمدن الإسلامية ـفرع التأليف والترجمة، عن كتاب “دمشق البناء العمراني في العصر العثماني”، ونلت جائزة “فوندازوني سانتغاتا” عام 2021 عن مشروع “حلب بين الأمس واليوم نحو المستقبل”، ويتم تنظيم هذه الجائزة سنوياً بالتعاون مع متحف الفن الكلاسيكي في روما وجامعة سابينزا بإيطاليا.