“ما وراء الضّباب” لـ لينا حمدان.. مفردات سلسة وسعي إلى التّجديد
نجوى صليبه
“أبرز ما يميّز طباعة الدّيوان هو حرفه الكبير الذي لا يجهد بالقراءة، وهذا ما شجّعني على طباعة ديواني به”، يقول الأديب مصطفى صمودي في بداية قراءته لديوان “ما وراء الضّباب” للشّاعرة لينا حمدان التي قدّمها في اتّحاد الكتّاب العرب، ويضيف: “الماوراء فرعٌ فلسفيٌّ يدرس الغيبيات واللامرئيات، وحامله الحقيقي “التّذهّن” الذي تحدّث عنه أفلاطون في مدينته الفاضلة، وهو عكس دراسة الإنطولوجيات التي تدرس الوجود بما هو موجود كما أشار أرسطو، والضّباب حدث فيزيائي لا نستطيع رؤية الأشياء من خلاله، فقد يكون سديماً أو عماءً أو عدماً، وقد تكون ما وراءه إشراقة شمسٍ كانت غافية في مرقد مغربها، ولأنّ العنوان هو البوابة الرّئيسية للدّخول إلى النّصّ سندخل فضاء الدّيوان من عنوانه، والخافي أي اللاشعور وما تختزنه كثيراً ما يظهر عفو الخاطر لحظة لا رقيب عليه، لذا فإنّ للبحر في جوّانية شاعرتنا سكناً ومستقراً، وقد نوّهتُ بذلك حين قدّمت انطباعاً حول ديوانها “يوم احتراق الذّاكرة” وألقيته بالمركز الثّقافي العربي في طرطوس، آنها دهشت الشّاعرة عندما لفت نظرها الكمّ الهائل لذكر البحر، وما يدلّ عليه في ديوانها هذا، وها هي تعود مجدداً إلى ذكر البحر بشكلٍ لافت للنّظر في هذا الدّيوان، إذ نجد فيه ما يقارب السّتين لفظاً للبحر وما يدلّ عليه، لأنّ البحر يسكن فيها وهي تسكن فيه، وإذا تلبّسها شيطان الشّعر فإنّ مارد البحر تلبّسها من قبل وأسكنها معه في قمقمه، وإذا خرجت منه فإنّ حضورها يكون نيابةً عنه ولا غرو في ذلك، أليس الإنسان ابن بيئته؟”.
أمّا الغلاف فحسب الأديب إسماعيل ركاب فهو: “لوحةٌ سوداء مفتوحة على كلّ الجهات، تعبيراً عن القهر والألم والقتل والدّمار الذي عاشته سورية خلال الحرب الكونية الظّالمة عليها، وذلك الضّوء الّذي يحاول البزوغ من مركز اللوحة معبّراً عن فرج قادم، وهو ما تريد قوله الشّاعرة من خلال العنوان، وتوضّحه أكثر عندما تقول في قصيدتها “هذيان”:
أتراه.. ينكشف الضّباب وتستعيد الضّوء
من أفق تمرّد وانسحب…
وبالحديث عن الموسيقا الشّعرية في الدّيوان، يقول: “شعر بلا موسيقا جسدٌ بلا روح، وفي هذا الدّيوان تتبدّى الموسيقا الشّعرية من ألفه إلى يائه كألحان عازف كمان ماهر يخرج بعبقريةٍ عزفه ما في جمال الآلة الخشبية من إبداع”، تقول الشّاعرة على تفعيلات البحر الكامل:
من ذا يرجع للعيون ضياءها ويردّ للأحلام وهج نجومها
وتسعى حمدان بدأبٍ إلى التّجديد ولا ترضى أن تقف عند المألوف والمعروف إيماناً منها بأنّ حرفية الإتباع تستعبد مضمونية الإبداع، وأنّ على الشّاعر أن يضيف إلى اللغة ما لم يضفه ألف لغوي ونحوي مجتمعين، تقول:
صهيل الضّوء قم واسمع نشيده ورتل يا ضياء الرّوح عيده
أرى في بحر عينيك امتدادي فتشرق شمس أحلام القصيدة
فعبارة “صهيل الضّوء” وعجز البيت الثّاني هما “لغة ضمن لغة”، إذ لم يعد الشّاعر المجدّد ترضيه عبارة “ذات يوم” لأنّها مفردة من كلام حياتنا اليومية، وأكاد أجد التّحديث في الدّيوان بكلّ قصيدة مثلاً: “الأرق المعتّق بالحنين” و”مشواري غريق” و”فوق شباك التّعب”.
وتعالج حمدان مواضيعها ـ بحسب ركاب ـ بحرفية عالية وبجملة شعرية حسّاسة وذاتية ووجدانية وبعيدة عن التّعقيد، ويضيف: “المعاني مطروحة في الطّريق” كما يقول الجاحظ، وتأخذ موضوعة الوطن الحيّز الأكبر من قصائد المجموعة، فالجرح عميق وانزياح الدّلالة واضح لمصلحة الفكرة، تقول في قصيدة “على شفا وطن.. من النّار”:
من يقرأ الأمواج ما بين السّطور إذا غدت خرسا
أو الشّطآن أدمنت اغتراب العمر في وطن
تضمده الخناجر..
والموضوعة الثّانية التي أخذت اهتمام الشّاعرة الكبير موضوعة الهجرة والرّحيل عن الوطن، تقول في قصيدة “حلم.. ومنسي هنا”:
هذا أنا.. وطن يهدّده الفراغ
وخطوة حيرى.. وتوغل بالضّباب
وفي الأدوات الفنّية والوسائل التّعبيرية، يقول ركاب: “جاءت قصائد المجموعة كلّها موزونة ومقفاة، وأخذت مقام شعر التّفعيلة أو الشّعر العمودي، واعتمدت الشّاعرة على المفردة السّلسة والقريبة من المتلقي والجملة الشّعرية المثقّفة والمليئة بالصّور الفنّية وحسن البيان والاستفادة من الثّقافة العربية والعالمية، واستطاعت بذلك الوصول إلى رسالتها بمتعةٍ ويسرٍ”.
ويورد ركاب بعض الأمثلة، يقول: “التّناص حاضر في المجموعة، لكنّه جاء على الأغلب على شكل امتصاص”، تقول:
وباسم المحبّة في هذه الأرض
جمعاً.. جميعاً نقيم الصّلاة
وهناك صورة فنّية مفردة مثل: تضمّده الخناجر في الصّفحة التّاسعة ولتوقد بالحبّ ذاك المكان في الصّفحة الرّابعة والثّمانين ـ انزياح دلالي ـ، وأخرى عنقودية على حدّ تعبير الدّكتور غسّان غنيم، وذلك يعني أنّه يوجد تتابع للصّور الفنّية في كلّ السّطور كما في المقطع الثّاني من قصيدة “حلم.. ومنسي هنا”:
الوقت يغرق بالدّماء
وغدٌ يسيّجه مدى الحزن الضّجر
ينساب محترقاً.. ويحترف الرّثاء
ماذا.. وايّ الوجد يوصد قلبه
ويلمّ عن جفن السّهاد ندوبه
ولأنّه لا يوجد عمل كامل، كان لابدّ من الوقوف عند بعض الملاحظات أو الهفوات التي وقعت فيها الشّاعر حمدان، يقول صمودي: “كلّ شيء بلغ الحدّ انتهى، وأملنا جميعاً الوصول إلى عتبات الكفاية لا الكمال، لأنّه صفة من صفات الكمال المطلق واجب الوجود، ورحلة حياتنا العطائية القصيرة عبر الزّمن السّرمد ما هي إلّا محاولات لتحقيق الكفاية، ومن خلال هذه الرّحلة لابدّ أن يقع أحدنا في هنّات.. أوّلاً كثيرون لا يفرّقون بين كلمتي الغيث والمطر، ولا أستثني نفسي من ذلك، لقد استعملت الشّاعرة كلمة المطر في ديوانها بصيغة الإيجاب لا السّلب فقالت:
ويرتاح مني جنون الدّفاتر والحبر يغريه ماء المطر
وثانياً، لأنّ جلّ قصائد الدّيوان كُتب على البحرين الكامل والوافر المجزوئين شكلاً بمواضيع تكاد تكون متقاربة مضموناً، وقد يتبادر إلى ذهن قارئه أنّه قرأ اللفظة الموجودة في الصّفحة 80 مثلاً في الصّفحة 40، وعندما يدقّق في الأمر يتبيّن له عدم صوابه، ولئن دلّ ذلك على شيء فإنّما يدلّ على أنّ القصائد عُزفت على وتر واحد، مبنى ومعنى، فجاء الدّيوان وكأنّه قصيدة واحدة، وتأكيداً لذلك هذا البيت:
وإذا الحدود تبعثرت شيء من التّحنان هام بكفها لتصبّ في جمر الدّفاتر
قد تستغربون أشدّ الاستغراب عندما أخبركم بأنّ هذا البيت ليس بيتاً واحداً، بل اخترت لا على التّعيين ثلاثة مقاطع من ثلاث قصائد مختلفة وألصقتها ببعض، فأتى البيت وكأنّه بيت من نسيج ومن قصيدة واحدة وليس طارئاً عليها، وما ذكرته لا يقلّل من شأن الدّيوان لكنّه تذكرة من أجل الآتي، فمن يقرأ “ما وراء الضّباب” يتمنّى أن يقرأه مرّة ثانية وثالثة ليستعيد حلاوة قراءته الأولى له.
بدوره، يقول ركاب: “لينا حمدان شاعرة متمكّنة من أدواتها، وأعتقد أنّها لسبب ما لم تستطع متابعة المرحلة الأخيرة من إنتاج كتابها في المطبعة، ما حتّم علينا التّنويه ببعض الملاحظات، أوّلها هو أنّ أعمال التّصحيح والإضافة والحذف تنجز قبل خروج الكتاب من المطبعة، فالأخطاء اللغوية تجاوزت الثّلاثين، وثانيها هو وجود خلل عروضي في أكثر من موضع، اكتفي بمثالين فقط، البيت الأوّل والثّالث من قصيدة “على أرصفة الوطن”، الأوّل زيادة تفعيلة في الصّدر:
قلبي على وطن تمزّقت الدّروب بقلبه وطغت تجود له الخناجر بالرّدى
والثّالث زيادة تفعيلة في العجز:
وتقطّعت أوصال عمر تاه مذ ضاقت به سبل الرّجوع وكان درباً واعداً
ملاحظات لم تعترض عليها حمدان، بل تقبّلتها بصدرٍ رحب، معلّلة وجود الأخطاء اللغوية ببعدها عن دار النّشر ووجودها في محافظة أخرى.