فلسطين أغنية خالدة
سلوى عباس
يحفل تاريخنا بألوان متعددة من الفلكلور الذي يشكل تراثاً يحمل في مضمونه سمات وأشكال تعبر عن واقع معاش في كل مرحل من مراحل التاريخ، وتشكل الأغنية الشعبية جزءاً مهماً من هذا التراث، حيث نشأت لأغراض متعددة منها الاجتماعي ومنها العاطفي بعيداً عن الحياة السياسية لتكون تعبيراً عن حالة نفسية اجتماعية تحملها في مضامينها.
والأغنية الشعبية كأغنية تختص بها المجموعة قبل أن تتطور وينفرد بغنائها مطرب أو مطربة، هي كنظم تعد نوعاً من أنواع الزجل الذي يعتمد على كلام سهل وبسيط يتناول النقد والتوجيه ومختلف العواطف بألحان سهلة بسيطة يمكن حفظها لتتمكن الجماهير من ترديدها، وقد اعتمد في تسجيل الأغاني الشعبية على المجموعة التي كان يؤديها الرجال والنساء بأصواتهم مجتمعين، وقد اكتسبت هذه الأغنية صفات الأغنية الفلكلورية لخلود ألحانها وترديدها من قبل جميع الناس، وعلى هذا فإنها تعتبر تراث الشعب ومادته العلمية التي نستطيع من خلالها أن نعرف نفسيته وأخلاقه وعاداته وتقاليده، وبعبارة أدق هي جملة المأثورات الشعبية والمميزات التي تؤلف شخصية شعبنا، وقد لعبت الأغنية الوطنية والأهازيج الشعبية دوراً مهماً في تعبئة الشعب الفلسطيني وتحريضه ضد الاحتلال الإسرائيلي وساهمت في تشكيل وعيه، كما شكلت وثيقة له في كل مراحله السياسية، إذ عبّرت عن واقعه بدءاً من ثورة الثلاثينيات، وصولًا إلى النكبة، وحتى عصرنا الراهن، وكانت صوت الثائرين ورفيقتهم في مشوار الكفاح، ومن خلال هذه الأغنية يمكن لمتتبعي التاريخ وضع أيديهم على مواطن الألم، ومحطات العذاب التي مرّ بها الشعب الفلسطيني الذي هُجّر من أرضه، وظروف الحياة والقهر التي عاشها في مخيمات اللجوء والشتات، كما ظلت الأغنية الوطنية لسنوات صوت كل من تطاله يد الاحتلال من شهداء وجرحى وأسرى، فكان لزنازين الاحتلال نصيب من هذه الأغاني التي حاولت تعزيز صمود الأسرى داخل السجون، وتحولت الكثير من الشعارات والكلمات التي قالها الأسرى لاحقًا إلى أغان بهدف دعم صمودهم، فكان لها دوراً إيجابياً وصدى قوياً، بين جدران السجون، وأصبحت الأغنية الشعبية تمثل أحد أهم أركان الهوية الوطنية الفلسطينية والتراث الفلسطيني؛ الذي يعد بدوره سجلاً متكاملاً لتاريخ فلسطين وأساليب حياة الشعب الفلسطيني بتفاصيلها المختلفة لتشكل بمجملها الرؤية الجوهرية لهوية الوطن والشعب.
في مرحلة السبعينيات من القرن الماضي حيث كانت المنطقة آنذاك تعيش صراعات قوية، وأحداثاً دامية، كانت مجزرة صبرا وشاتيلا ودماء فلسطينية تراق هنا وهناك، هذا كله أجج حالة النضال، فظهرت “فرقة العاشقين” بقوة تأثيرها، سواء على مستوى الزي الذي كان يمثل زي الصاعقة الفلسطينية تعبيراً عن الثورة، أو على مستوى الكلمات التي كانت تؤلف وتلحن من خلال شعراء فلسطين كـ: محمود درويش، ومعين بسيسو، وأحمد دحبور، وسميح القاسم، فاجتمعت الكلمة واللحن ليجسدا آلام الشعب الفلسطيني وكفاحه، وكانت هذه الفرقة من القوة ما جعلها تحقق انتشاراً عربياً وعالمياً، وكانت سفيرة حسنة للقضية توثق في ألبوماتها كل فترة من فترات المعاناة الفلسطينية، وأصبحت صوت فلسطين الحر الذي أثبت حقيقة أن الثورة الفلسطينية المعاصرة لم تكن بندقية ثائر فقط، بل كانت بعداً ثقافياً شكّل استثناء تاريخياً لهوية شعب لاجئ، وروت أغانيها قصة شعب يكافح لنيل الحرية والاستقلال، كما شكلت هذه الفرقة رافعة من روافع العمل الوطني تمارس دورها في التعبئة والتثقيف دون كلل أو ملل، وكانت أغانيها حاضرة في كل المناسبات والأعراس والأفراح والحفلات والسهرات والمظاهرات، تمثل صورة فلسطين المتألقة والصادقة والمعبرة عن الحدث والقضية.
لقد أصبحت الأغنية الشعبية الفلسطينية شكلاً من أشكال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، لا يستطيع منع انتشارها وخاصة أنها متداولة بين أبناء الشعب الفلسطيني ومتوارثة عبر الأجيال، وقد أطلق على الأغنية الوطنية في عصرنا الراهن العديد من التسميات مثل الأغاني الوطنية، أو الأغاني السياسية، أو الملتزمة، وتهدف جمعيها إلى خلق نوع من التغيير في مشاعر الجماهير، وإيجاد جو حماسي في أوقات المحن والحروب، وبالفعل استطاعت الساحة الفنية مع الأيام أن تفرز هذه النوعية من الأغاني، وتوحد جمهورها الذي يستطيع تذوقها ويقدر أهميتها لتكون فلسطين الأغنية الخالدة في وجدان أبنائها على امتداد الوطن العربي.