“طوفان الأقصى” تقضي على التكنولوجيا الإسرائيلية
عناية ناصر
فاجأ حجم وكثافة عملية “طوفان الأقصى “التي شنتها المقاومة الفلسطينية في السابع من شهر تشرين الأول الحالي “إسرائيل” والعالم. حتى المخضرمين في وكالات الاستخبارات الغربية، الذين على معرفة وثيقة بقدرات المراقبة الإسرائيلية، عملوا على عدم تقديم أي تفسير معقول للفجوات الأمنية الواضحة. كما اعترف الأكاديميون الذين لديهم عقود من الأبحاث حول الصراع بأنهم ليسوا أكثر حكمة، ولم يكن لديهم أدنى فكرة عما يحدث.
وكان المسؤولون الأمريكيون مراوغين بشكل ملحوظ عندما سئلوا عما إذا كان هذا يعتبر بمثابة “فشل استخباراتي” ذريع. وتساءلت وسائل الإعلام الرئيسية علناً حول كيفية فشل تل أبيب في ملاحظة خطط الفلسطينيين المفصلة، بينما انتشرت نظريات المؤامرة بسرعة على الإنترنت للإشارة إلى أن “إسرائيل” ربما سمحت عمداً بحدوث التوغل، كما لو أن “إسرائيل” كانت بحاجة في أي وقت إلى ذريعة لتدمير غزة. وفي هذا السياق قال ضابط مخابرات إسرائيلي سابق: “من المستحيل، من وجهة نظري، ألا تكون إسرائيل على علم بما سيأتي… هناك شيء خاطئ للغاية هنا… يبدو هذا الهجوم المفاجئ وكأنه عملية مخططة على جميع الجبهات”.
فشل أمني غير مسبوق
زعم تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” حول الفشل الذريع أن “إسرائيل” قامت ببناء أقوى جهاز استخبارات في المنطقة، وأنشأت شبكة من المخبرين في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية، وكذلك في الدول المحيطة بها. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الطابور الخامس الهائل على ما يبدو، وبناء تل أبيب لحاجز أمني مشدد حول معقل المقاومة في غزة المطوقة مدعوماً بأجهزة استشعار للحركة وممتد عميقاً تحت الأرض، فقد تمكن مئات المقاومين الفلسطينيين من اختراق تلك الحواجز الدفاعية دون صعوبة. لقد قاموا بعمليات الاختراق من جبهات متعددة، باستخدام القوارب والأنفاق والدراجات النارية والطائرات الشراعية، وتسللوا إلى عشر قواعد جيش الاحتلال، وقتلوا المئات من الجنود الإسرائيليين.
تضمنت عملية ” طوفان الأقصى” ترتيب أنظمة إطلاق صواريخ متعددة وقوات برية ومركبات وغيرها من المعدات في مواقع حساسة قبل تنفيذها، مما ترك عناصر المقاومة ومعداتهم عرضة للمراقبة من زوايا مختلفة، ومع ذلك لم يتم اكتشافهم أو اعتراضهم.
لقد استثمرت تل أبيب مليارات الدولارات في بناء سمعتها، وتفاخرت في السنوات السابقة بأنها كانت من بين الدول الأكثر تحصيناً ودفاعاً في العالم. ولكن في عملية “طوافان الأقصى” أصبحت التكنولوجيا عديمة الفائدة تماماً، ولم تتمكن الكاميرات الأساسية وأجهزة الاستشعار والأنظمة الأخرى من تحديد الهجوم أو من قام بالهجوم . في هذه الأثناء، أطلقت الطائرات بدون طيار مدافع رشاشة وأبراج حراسة إلكترونية، بينما قامت المقاومة الفلسطينية بتفجير الأسوار ودخولها إلى المستوطنات الصهيونية.
وقد تناولت الصحف الإسرائيلية هذا الفشل بالقول: “حتى لو تم تدمير قطاع غزة كله، وحتى لو القضاء على جميع رؤساء فصائل المقاومة، فإن هذا لن يعوض أو يبرر أكبر فشل أمني منذ عام 1973”.
بعيداً عن الخسائر العسكرية التي تكبدتها قوات الكيان الإسرائيلي، فإن التأثير النفسي الأوسع لهذه العملية الفدائية الفلسطينية عميق، ويأتي ذلك على خلفية عامين من عمليات القرصنة الأجنبية المتواصلة، والناجحة في كثير من الأحيان، والتي اخترقت أقوى جدران الحماية الإسرائيلية عبر المؤسسات الحيوية في البلاد. وفي الآونة الأخيرة، سربت عملية قرصنة صوراً خاصة محرجة لـ إيهود باراك، وزير الدفاع ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، والتي انتشرت على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي وأرعبت النخبة السياسية في “إسرائيل”.
انهيار قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي
في العام الماضي، ذكرت صحيفة” تايمز أوف إسرائيل” أنه في عام 2021، قدرت إجمالي صادرات الأمن السيبراني في “إسرائيل” بنحو 11 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، تعمل 33% من الشركات السيبرانية من “إسرائيل”، وتم تحويل 40% من الاستثمارات السيبرانية الخاصة العالمية إلى الكيان الإسرائيلي، وفقاً لحكومة الكيان.
من وجهة نظر” تل أبيب”، يمثل الكشف عن أنظمة المراقبة والحرب الإلكترونية الخاصة بها باعتبارها غير فعالة وعرضة للهجمات ضربة خطيرة للعلامة التجارية “لأساس الشركات الناشئة” الإسرائيلية، والتي تعتمد بشكل كبير على قطاع التكنولوجيا الذي تبلغ قيمته مليارات الدولارات، والذي يعتبر الأمن السيبراني في جوهره.
قبل بضع سنوات فقط، في عام 2018، تفاخر رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو بالقول: ” ينمو الأمن السيبراني ويزداد من خلال التعاون، والأمن السيبراني كعمل تجاري أمر هائل … لقد أنفقنا مبالغ طائلة على استخباراتنا العسكرية والموساد والشين بيت. كما ويتم تحويل جزء كبير من ذلك إلى الأمن السيبراني… ونعتقد أن هناك فرصة تجارية هائلة في السعي الذي لا ينتهي للأمن”.
إن الدفع نحو التفوق في الأمن السيبراني يمتد إلى كل مجالات المجتمع الإسرائيلي تقريباً، حيث تعمل الجامعات على صقل تقنيات جديدة مبتكرة وتدريب أجيال المستقبل من الجواسيس السيبرانيين وعملاء الأمن، ليتم توظيفهم بعد التخرج من قبل مجموعة من الشركات المحلية والخارجية التي أسسها قدامى المحاربين في وكالات الاستخبارات السيبرانية سيئة السمعة في تل أبيب، مثل الوحدة 8200، وهي فيلق وحدة الاستخبارات الإسرائيلية وهي مسؤولة عن التجسس الإلكتروني عن طريق جمع الإشارة وفك الشفرة، وهذه الوحدة مسؤولة عن قيادة الحرب الإلكترونية في قوات الكيان الإسرائيلي.
تُستخدم مقاطع الفيديو المصورة التي تعرض “الضربات” التي تشنها “إسرائيل” على المدنيين الفلسطينيين والبنية التحتية الفلسطينية كأداة تسويقية للترويج لأسلحتها للعملاء الأجانب، في حين اكتسبت العروض العملية لأدوات المراقبة مثل برنامج “بيغاسوس” للتجسس سيء السمعة والذي يُمكِن تثبيته على أجهزة تشغيل بعض إصدارات نظام آي أو إس (أبل) أو أي نظام آخر، من أجل التجسس على الشخص المستهدف ومعرفة ما يقوم به.
في السنوات الأخيرة، أصبح الكشف عن تورط الحكومات الأجنبية ووكالات الأمن في فضائح بسبب استخدامها السري لبرنامج ” بيغاسوس” أمراً روتينياً مثيراً للقلق . تم تطوير هذه الأداة من قبل مجموعة “إن إس أو” التي أسسها عميل سابق في الموساد، وكشف تحقيق أجرته مؤسسة “كارنيغي” عام 2021 أن 56 ولاية مختلفة اشترت هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى ابتكارات أخرى في برامج التجسس والطب الشرعي الرقمي من الشركات الإسرائيلية.
صناعة القتل
وكما وثق جيف هالبر، مدير اللجنة “الإسرائيلية” ضد هدم المنازل، في كتابه الصادر عام 2015 بعنوان “الحرب ضد الشعب”، فإن بيع تل أبيب منتجات مثل “بيغاسوس” للعملاء في الخارج هو أمر فعال للغاية في خنق الانتقادات الدولية لسياسة الهمجية الصهيونية تجاه الفلسطينيين. لكن في نهاية المطاف، تحولت الفعالية الوحشية لهذه الهمجية إلى نقطة بيع فريدة لأجهزة القتل الإسرائيلية، وحلول المراقبة، وتكتيكات القتال في مختلف أنحاء العالم.
قبل أيام قليلة من بدء عملية “طوفان الأقصى”، أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن ارتفاع قياسي في عدد البلدان التي تشتري أنظمة الحرب السيبرانية والاستخباراتية الإسرائيلية من 67 إلى 83 خلال عام 2022، وتم منح تراخيص تسويق هذه المنتجات إلى 126 دولة.
جاء ذلك في أعقاب الانخفاض الكبير في عام 2021، والذي عجل به الكشف عن الاستخدام الواسع النطاق لبرنامج “بيغاسوس” من قبل الحكومات القمعية، وإدراج واشنطن لشركتي “إن إس أو”، و”كانديرو” في القائمة السوداء. ويبدو من المحتمل أن تؤدي أحداث الأيام الأخيرة أيضاً إلى انخفاض كبير في حظوظ قطاع الأمن السيبراني في “إسرائيل”.
إن غزة، بحكم تصميمها، هي معسكر اعتقال في الهواء الطلق، ومن الناحية النظرية، لا يدخل أو يخرج أي شيء أو أحد دون إذن ومعرفة ” تل أبيب”، لكن هذه المرة فشل نظام المراقبة الداخلية المفترض فشلاً ذريعاً.
لم تكن عملية” طوفان الأقصى” فشلاً أمنياً مهيناً لإسرائيل فحسب، بل أثارت أيضاً تساؤلات حول فعالية التكنولوجيا الأمنية التي تتبجح بها، إذ من الممكن أن يكون لعملية المقاومة التاريخية في 7 تشرين الأول عواقب بعيدة المدى، مما يؤثر على سمعة الكيان الإسرائيلي ليس فقط في المجال العسكري، ولكن في المجالين التجاري والاقتصادي أيضاً.