الرغيف مجدداً “معجّن” في الأفران و”مهدور” على الطرقات.. ما توفره خزينة الحكومة يدفعه جيب المواطن!
البعث الأسبوعية – ريم ربيع
مجدداً، وبشكل أصبح شبه اعتيادي بين فترة وأخرى، تعود أزمة الرغيف لتفرض نفسها على مائدة السوريين شبه الخاوية، والتي بات الخبز فيها الوجبة الرئيسية المتبقية في متناول اليد، بعد أن خرجت معظم الأصناف الغذائية الأساسية من قائمة المشتريات، غير أن الأزمة الجديدة ليست بتوفر المادة، والتي تؤكد مصادر وزارة التجارة الداخلية على كفايتها لاحتياج السوريين، فضلاً عن المخزون الاحتياطي المؤمن من القمح، بل تتمثل هذه المرة برداءة الرغيف، الذي جسد حرفياً مقولة “كل عضة بغصة”، وبالازدحام العائد بقوة إلى معظم الأفران، فانعكس مباشرة زيادة في باعة “السوداء” المنتشرين أمام المخابز، ويبيعون الخبز بأسعار أقرب للسياحية!!
فالوفرة المعتبرة موطن قوة بالرغيف، تنعكس حالياً إهداراً وإتلافاً لأطنان من الخبز بسبب الجودة المتدنية، لكن بدل أن يكون الهدر محصوراً ضمن الأفران التي تعتبر الحكومة أنها ضبطتها بآلية البيع عبر البطاقة الذكية، انتقل اليوم إلى بيوت المستهلكين، حيث يضطرون لإتلاف أكثر من ربع ما يشتروه من الخبز نتيجة “تعجنه” أو “تفتته” أو “يباسه” بعيد ساعات من الشراء، فتضمن الحكومة بذلك أرقام الوفر المحقق من طحين ومحروقات، وتراجع الهدر في المخابز، بحيث تتباهى بها عند أية “زنقة”، ويتم تحميل الخسارة الحقيقية لجيب المواطن “حمّال الأسيّة”.
أفران مدللة
تقول مها (أم لثلاثة أطفال) وتسكن في ريف دمشق : كنت أختصر وقتاً جهداً وأشتري حاجتنا من الخبز مرتين فقط في الأسبوع، حيث اتجه لأحد مخابز دمشق باعتبارها أفضل بكثير من المخابز الموجودة بالريف، وأبتاع ثلاث ربطات تكفي أربعة أيام تقريباً، وتبقى بجودة مقبولة، لكن اليوم لا تبقى الربطة أكثر من يوم واحد، وتفاقمت المشكلة مع عودة المدارس، وحاجة الأطفال “للسندويش”، فاضطر لشراء ربطة صباح كل يوم من المعتمد الموجود بالحي لصعوبة التوجه لدمشق يومياً، علماً أنها أكثر رداءة مما أشتريه من الفرن، وبسعر 500 ليرة للربطة الواحدة! وما يتبقى منها يكون غير صالح للأكل في اليوم الثاني.
وحيث لا يمكن تعميم المشكلة على جميع الأفران، لابد من الإشارة إلى حفاظ بعضها على إنتاج الخبز بمواصفات جيدة، فغالباً ما تكون الأفران الاحتياطية ذات إنتاج أفضل، مما انعكس ازدحاماً عليها أكثر من غيرها، كذلك الأفران التي تم تحديث خطوط الإنتاج فيها، أو الأفران “المدللة” بنوع طحين أفضل من غيرها، فوزارة التجارة الداخلية لم تنكر أن الطحين الموزع للأفران ليس بذات الجودة للجميع، مما انعكس-إلى جانب عدة أسباب أخرى- تفاوتاً بالجودة وببورصة السوق السوداء للخبز!
الجود بالموجود!
وفي جولة لنا على بعض أفران دمشق، أوضح مواطنون أن أفضل جودة حالياً في أفران ابن العميد والأمين والوحدة والأكرم، فيما تراجعت الجودة في معظم الأفران الباقية لاسيما الآلية منها، فضلاً عن التلاعب بالوزن و”الأخطاء” بعدد الأرغفة أحياناً، بينما يغمز بعض مدراء الأفران الخاصة، إلى أن الخسارة التي يتكبدوها -والتي اعترفت بها وزارة التجارة في أكثر من مناسبة- يتم تحميلها بالضرورة على الجودة “بإهمال مقصود أو غير مقصود”، وعلى وزن الربطة، فيما حمّل بعض المدراء قِدم الآلات وخطوط الإنتاج المسؤولية الأكبر، وبرّأ قسم آخر نفسه من المسؤولية بقوله: هذا نوع الطحين الذي توفره لنا وزارة التجارة ونحن “نجود بالموجود”.
حاولنا التواصل مراراً مع مدير المؤسسة السورية للمخابز مؤيد الرفاعي للاستفسار حول ما سجلناه من ملاحظات عن تفاوت في جودة الرغيف، لكن دون رد رغم موافقة المكتب الصحفي على اللقاء، لنتجه إلى مدير حماية المستهلك في دمشق ماهر بيضة، الذي برّر تفاوت جودة الخبز بين مخبز وآخر، وبشكل أكبر بين دمشق وريفها، بعدة عوامل أولها نوع الدقيق، فليس بالضرورة أن يكون ما يوزع على الأفران من نوع واحد، إذ يتم التخليط بين عدة أنواع في بعض المخابز ليكون الرغيف أفضل، كما أن 50% من الجودة تعتمد على خبرة العجان والعامل، إضافة إلى الآلات وخطوط الإنتاج التي قد تكون غير محدّثة، فبعض الأفران التموينية عمرها 60-70 عاماً، ومنها ما لم تحدث خطوط إنتاجها، ليستدرك هنا بأن هذه المشاكل تشمل فقط الأفران الخاصة، أما أفران الدولة فكلها بجودة واحدة بدمشق، حيث تستلم عدة نوعيات دقيق وتخلط بمقادير واحدة، إذ لا يوجد فرن عام بدمشق خبزه سيء، وكلها تنتج بنوعية بين الجيدة جداً للممتازة –على حد تعبيره-.
بورصة “عالمزاج”
من جهة أخرى، تفرض سوق الخبز السوداء نفسها مجدداً على قائمة الانتقادات والفوضى، فرغم أن مشهد البيع على البسطات وأمام الأفران وعلى الطرقات الرئيسية، بات اعتيادياً منذ أعوام، إلا أن ما تسجله أسعار الربطة من غلاء واستغلال ومزاجية، شكّل عامل استفزاز جديد لمئات المواطنين المضطرين للشراء منهم بحكم ضيق الوقت، وتجنباً للانتظار الطويل، أو من أبناء الريف الممنوعين من شراء الخبز عبر أفران دمشق تحت ذريعة “التوطين”، فظاهرة انتشار البسطات ازدادت مؤخراً لاسيما أمام الأفران ذات الخبز الجيد، ولم يعد معظم الباعة يقبلون بسعر1300 ليرة الذي كان متفق عليه سابقاً، بل ارتفع سعر الربطة لـ2000-3000 ليرة، ويزداد هذا الرقم عند أية أزمة يتحسسها البائع.
فعلى سبيل المثال، وأمام فرن الأكرم، يبدأ النهار ببيع الربطة أمام الفرن بسعر 1800-2000 ليرة، كون الازدحام لا يكون قد بدأ بعد، ليرتفع السعر في فترة الظهيرة وبعد انتهاء دوام الموظفين لـ2500 ليرة، بينما يزيد مساءً لـ3000-3500 ليرة، فيما تباع الربطة أمام فرن الشيخ سعد ب2000 ليرة وسطياً، وكذلك أمام أفران ابن العميد 2500-3000 ليرة تقريباً، وكان من الملاحظ أن أي ازدحام إضافي أمام أي فرن ينعكس آنياً على استغلال الباعة، ورفعهم الأسعار، أما يوم الخميس فيسجل الأسعار الأعلى في بورصة الخبز، كون عدد البطاقات المتاحة تكون أكبر، ولأنه يسبق العطلة الأسبوعية، إذ يقفز سعر الربطة إلى 4000 ليرة نهاراً، و5000-6000 ليرة مع ساعات المساء!
شبكات منظمة!
وأمام هذه الأرباح “المغرية” التي يحققها الباعة، باتت تجارة الخبز مصدر رزق للعشرات، حيث أوضح أحد من التقيناهم من باعة، أنه تخلى عن وظيفته في إحدى المؤسسات العامة، ليكتفي وابنه ببيع الخبز لمدة ست ساعات يومياً، وبيومية تقارب 80-100 ألف ليرة كحد أدنى! قد تزداد للضعف قبل العطل أو الأعياد، وذلك عن طريق تجميع بطاقات أبناء حيه وأقاربه، والاستفادة من الفائض الذي لا يحتاجونه من مخصصاتهم، من باب “التنفيعة”! بينما أثارت الأرباح السهلة شهية الكثيرين لتشغيل الأطفال واستغلالهم في هذه المهنة، فلم يعد يقتصر الأمر على عائلة قد تشغّل أطفالها لساعات قليلة كمصدر دخل إضافي، بل لحظنا تجمعات للأطفال –في فرن ضاحية قدسيا على سبيل المثال- ينظمهم مشغّل واحد، ويقدمون له ما يجنوه من أرباح بعد كل بيعة، مقابل أجر يومي لكل منهم.
ومقابل هذا الاستغلال الذي يفرض عشرات الأسئلة حول مدى ضبط الوزارة فعلياً للهدر والبيع العشوائي على الأفران، وآلية حصول الباعة على هذا الكمّ من الخبز، لم يكن لمدير تموين دمشق سوى أن يشهر سلاح الدوريات التي –على ذمته- تتواجد يومياً أمام الأفران، فبعد أن كانت تركز على عدد من الأفران الأكثر جودة والمعروفة بازدحامها، تم تكثيفها اليوم أمام جميع الأفران، كما يتم توجيه دوريات أخرى يومياً من الرابعة صباحاً للـ12 ظهراً، تختص بالرقابة على وزن الربطة وجودتها، لافتاً إلى تلقي المديرية شكاوى عدة حول وزن الربطة في بعض الأفران ومعالجتها.
ازدحام اعتيادي
وحول صالات السورية للتجارة التي تبيع “خبز معجن” على حد تعبير بعض من التقيناهم، أوضح بيضة أن 63 صالة تبيع الخبز ضمن دمشق، بحيث يكون مراقب ومبرد وينقل بصناديق مخصصة، ويصل للصالات بأوقات محددة، مؤكداً أن خبز الصالات ينقل مباشرة من الفرن، ولا يتم تجميعه ليعجّن، فالمعتمدين الخاصين يستلمون الخبز بين 12 ليلاً للسابعة صباحاً، أما الصالات فهي تفتح بعد السابعة، وتستلم حصتها بين 8-9 صباحاً، فيكون الخبز مجهز حديثاً، وليس من الليل، أما كمية الخبز للصالات، فهي متفاوتة حسب الطلب واليوم، إذ يحصل يومي الخميس والسبت ضغط أكبر من بقية الأيام، لكن بمعدل وسطي يتم توزيع 15 ألف ربطة يومياً، مع الإشارة إلى أن الصالات تبيع لبطاقات دمشق وريفها.
أما الازدحام ومشهد الطوابير الذي عاد إلى بعض الأفران، لم يكن مفاجئاً على ما يبدو للمعنيين في وزارة التجارة، حيث بيّن مدير التموين أن زيادة الاستهلاك هي حالة اعتيادية في الشتاء، فيزيد دائماً الطلب عن الصيف، فضلاً عن عودة المدارس والسندويش للطلاب، وعودة المسافرين بعد عطلة الصيف، إلا أن أفران دمشق –وفقاً لتأكيده- تستوعب الطلب حتى الآن، ولا يوجد عجز بالإنتاج أو تلبية كامل الطلب، مع الإشارة إلى أن الضغط يزيد من إقبال سكان الريف للشراء من دمشق، خاصة وأن الكثير منهم موظفين في المدينة، ويجذبهم نوع الرغيف وجودته.
تؤثر على اللون فقط
وفيما يشكك مواطنون بنسب الشوائب الموجودة بالطحين الموزع إلى الأفران، والتي تتسبب بالجودة المتدنية حسب وصفهم، أكد بيضة أن نسب الشوائب محددة لدى المطاحن والحبوب، غير أنها ضمن المواصفات، وهي تؤثر فقط على اللون، وليس على جودة الرغيف، أما بالنسبة للمحروقات فهي مؤمنة للأفران باستقرار ولا يوجد نقص فيها.
وبحسب بيانات مؤسسة المخابز، فيتم يومياً إنتاج ما يقارب 5.5 مليون ربطة من قبل المخابز العامة البالغ عددها 209، حيث تنتج مخابز المؤسسة 2.8 مليون ربطة، عبر 271 خط إنتاج، بينما تنتج مخابز القطاع الخاص 2.7 مليون ربطة،