ناس ومطارح.. سلوى عباس: قلم نابض بالحبر والحب
تمّام بركات
من فوق سطح منزلها في مدينة جبلة، أطلت على عوالمها السحرية الأولى؛ البحر الذي زاحم جدائلها على المشط المطمئن في يد أمها، ينسدل بنعومة بين شعرها وهي تنظر إليه، فتشعر بأن الموج الذي يترامى أمامها، صار بدوره ينهمر مع المشط فوق خيالها، وخط الأفق الذي يشكله حين التقائه بالسماء، راحت تتخيله شريطة من شرائطها الملونة الغالية، بينما خلفها راحت المدينة الصغيرة تكبر رويداً رويداً، مع أحلامها الطفولية وقصصها الغافية في “كان يا ماكان” حتى صارت أحلامها طريقاً حملها حيث أرادت ورغبت وأحبت.
في المدينة التي راحت تفرد أمامها شيئاً فشيئاً، شوارعها وحاراتها، وتكشف لها عن أماكنها الأكثر دهشةً وجمالاً، كانت الصحفية والكاتبة سلوى عباس-1960- تقرأ هذه المفردات بوجدانها أولاً، وتخزن في ذاكرتها تفاصيلها، وكأن حدساً مبكراً لم تدركه بعد، راح يورطها شيئاً فشيئاً بالأدب، ويحملها على المضي بجرأة أعلى همة، للقفز فوق سور “الممنوع”، في خيالها أولاً، ثم في عالمها الواقعي، الذي أرادت أن تختبره بيديها قبل وعيها.
وفي دفتر بشريطة بيضاء، راحت تصيغ ما تشعر أنه شغفها حباً، تارة بومضة شعرية، وتارة بقصة قصيرة، وتارة بخاطرة، مدونة بذلك أيضاً ودون قصد، طبائع الأيام التي عبرتها، ولكن من وجهة نظر خاصة بها، حرصت طوال عمرها على تكوينها باستقلالية ومسؤولية أيضاً.
حينها كان البيت وطريق المدرسة والمدرسة، ثالوثها الوجداني والعاطفي الأسمى، بيوم يبدأ بالنهوض من الأمس، على صوت تحبه، قبل أن تغمرها رائحة الدفء والحنان والنعم، المعرشة على ثوب والدتها وصوتها: “سلوى يا سلوى” تقول بنغم موسيقي طفولي، كانت تردده الأم في أذن طفلتها، ولا زالت تردده حتى اليوم، والطفلة التي صارت سيدة صاحبة تجربة حياتية وثقافية غنية، لا زالت تسمعه في كل يوم، طازجاً، حاراً، كما لو أن صاحبته، تهمس به قربها، لا حيث غابت صورتها وبقي الصوت يتردد أبداً.
ولأن الحلم صار أكبر، هبت رياح تحقيق الأحلام، وها هي الفتاة المتلهفة، تراقب طريق السفر من جبلة إلى دمشق، بعد أن قررت العائلة الانتقال مع الأب، الذي تغير مكان عمله، ليستقر بهم المقام في “قطنا”، وكان السطح أيضاً في البيت الجديد، من الأمكنة التي تفقدتها سلوى وكأنها تبحث عن تلك الإطلالات التي ألفتها في بيتهم القديم.
لكن السماء فوق دمشق، كانت متلبدة بسحب الحرب، وصوت القذائف يغلق كل الأزرق السماوي الفسيح، الذي كان زوادتها اللونية والعاطفية، ومرة أخرى إلى دفتر الأيام بشريطته البيضاء، مضت سلوى مع فارق في العزم والتصميم على رسم الهدف، والسعي لتحقيقه.
حازت عباس على شهادة في الأدب العربي من جامعة دمشق، وإجازة في الإعلام من جامعة بيروت، وأثناء دراستها الجامعية،اشتغلت الصحفية سلوى عباس في دار البعث للصحافة والنشر، واكتسبت خبرات مهنية وحياتية جديدة، ثم تخصصت في الشأن الثقافي، وله نذرت باقي حياتها المهنية، حتى صار اسمها من أهم الأسماء الصحفية المختصة بالثقافة.
أجرت عباس عشرات الحوارات مع كبار الكتّاب والشعراء والفنانين المحليين والعرب، وخاضت في عشرات العروض المسرحية والأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية، وأسست بذلك لبنك معلومات ثقافية، جعلت نجمها يلمع سريعاً في الأوساط الثقافية والفنية، قبل أن ترتقي في السلم الوظيفي، وتصبح رئيسة القسم الثقافي، ومن ثم أمينة تحرير الشؤون الثقافية في دار البعث.
وضعت سلوى “الموضوعية” كأساس متين للحالة النقدية التي شجعتها في القسم الثقافي، فلا محظورات في تقديم الرأي، طالما أنه مدعم بالحجة والمنطق والموضوعية، وسعت بقلب واسع لاستقطاب أهم الأسماء المشتغلة في الوسط الصحفي الثقافي، كما اشتغلت بقلب أم، على تدعيم العلاقات الإنسانية بين زملاءها في الصحيفة، وصار فنجان القهوة الصباحي في مكتبها، عادة أصيلة وطقس محبب، وعبق قهوتها لا زال عابقاً في أروقة الدار حتى أثناء كتابة هذه الكلمات عنها.
أنهت الكاتبة والصحفية سلوى عباس حياتها المهنية، بتاريخ حافل من العمل والجد والحب أيضاً، ثم قررت العودة إلى مدينتها القديمة، وبيت أهلها، إلى غرفتها وخيالاتها البعيدة، ولا زال دفترها الصغير، بشريطته البيضاء، بيت أسرارها وشغفها، وملهمها أيضاً، ولا زال قلمها نابضاً بالحبر والحب، ولا زال صوت أمها مرضعها أيضاً، ولكن من الخلود.