“سنرجع يوماً”.. كلمات لن يمحوها المشروع الصهيوني.. فلسطين الهادئة تتحول إلى جدران عازلة ومتاهات ونقاط تفتيش وأبراج حراسة
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
في السابع من تشرين الأول، كسر الشعب الفلسطيني الحصار الذي دام أكثر من 16 عاماً على غزة – أكبر سجن مفتوح في العالم- ورداً على ذلك، هدد الكيان الصهيوني الفلسطينيين بالإبادة، وأعلن وزير الاحتلال الإسرائيلي عن فرض حصار تام على قطاع غزة يشمل الماء والكهرباء والغذاء قائلاً: “لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، إننا نقاتل حيوانات بشرية وسنتصرف وفقاً لذلك”.
والآن، اشتد الحصار ليصل إلى حد الإبادة الجماعية، وأُجبر مئات الآلاف على النزوح داخل غزة، التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني نسمة دون أن يكون لديهم مأوى يلجئون إليه.
ودون أي رادع أخلاقي تم تسوية مبان سكنية بأكملها بالأرض بينما تقبع العائلات المرعوبة جراء الغارات العسكرية العنيفة في الظلام، معزولة عن العالم الخارجي.
في ازدواجية واضحة للمعايير، سارع زعماء القوى الاستعمارية القديمة من واشنطن إلى بروكسل للتهليل للعنف الذي تمارسه “إسرائيل”، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية من خلال دعاية وحشية متزايدة الهستيريا، متناسين أن العنف غير المبرر لم يكن يوماً ألا صنيعة المحتل الذي يغتصب للأراضي الفلسطينية.
فمن خلال سياسة قمعية تنفذها قوات الاحتلال، تحولت مناظر فلسطين الطبيعية الهادئة إلى جدران عازلة ومتاهات ونقاط تفتيش وأبراج حراسة وبؤر استيطانية، حيث لم يتوان الاحتلال عن حرمان المزارعين من مزارعهم، والتجار عن طرق تجارتهم، حتى أنهم حرموا الإخوة من أخواتهم. وفي كثير من الأحيان يدخلون المنازل دون أي رادع، وفي كل مكان يجعل المستوطنون الأرض غير صالحة للعيش بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى العودة.
الحرب الصامتة
يقول الكاتب والعضو في الوفد الدولي الذي نظمته المنظمة التقدمية الدولية بالتعاون مع جمعية الشعوب الدولية ماتيو جيرديلو، عندما قمنا بزيارة فلسطين في شهر أيار الماضي كجزء من زيارتنا شاهدنا العنف عبر التضاريس الرازحة تحت نير الاحتلال، فمن البلدة القديمة في القدس الشرقية، مروراً بالمسجد الأقصى، مررنا بما يسمى بمدينة “داود”، وشاهدنا كيف قامت قوات الاحتلال، تحت ستار الحفريات الأثرية بحثاً عن آثار للهندسة المعمارية اليهودية القديمة التي لا وجود لها، باقتلاع بساتين الفلسطينيين وتطويق أراضيهم.
يضيف جيرديلو وصلنا إلى سلوان التي يعيش فيها أكثر من 65 ألف فلسطيني، ومع ذلك، تواجه آلاف المنازل خطر الهدم بحجة عدم حصولها على التصاريح اللازمة، حيث حولت قوات الاحتلال العديد منها إلى أنقاض، ليصل بعد ذلك المستوطنون، محاطين دائماً بحراس مسلحين ويصادروا الأرض من سكانها الأصليين.
بالرغم من الحرب الصامتة ينظم أهالي سلوان أنفسهم لمقاومة هذه الحرب، فعندما تأتي الجرافات تجتمع الأهالي للدفاع عن العائلات التي جاء دورها لمواجهة محنتها الأليمة، فقد حول مركز البستان المجتمعي المكان إلى قلب نابض بالحياة، حيث الأفراح البسيطة والمتحدية، الأبواق والطبول للفرقة الموسيقية، علامات على الحياة الطبيعية والمقاومة في الأماكن التي تتعرض لخطر الهدم. في كل مكان، تتزين أزقة الحي الضيقة بالأشجار والبلاط والرسومات، لتعلن لسلطات الاحتلال التي تريد هدم هذه المنازل بدعوة أنها لأنها غير صالحة للسكن، زيف ادعاءاتهم.
يتابع جيرديلو من خط المواجهة في “الحرب الصامتة”، سافرنا إلى الخليل في الضفة الغربية، حيث شاهدنا نقاط التفتيش شديدة التحصين – الشبكات والأسلاك الشائكة والبوابات الدوارة تنتشر في مختلف أنحاء المدينة – لتحرس المستوطنات الإسرائيلية، التي كانت يوماً مركز المدينة القديمة.
هناك، فوق بوابة مخيفة تفصل مستوطنة مهجورة عن المدينة، توجد آلة يسميها البعض “مطلق النار الذكي” بندقية آلية يمكنها قتل أي شخص يقترب إذا رأى الاحتلال أنه يشكل خطراً، ومن المؤكد أن وجه كل فلسطيني تقريباً ينطبع في هذا النظام، الذي يحدد مصيرهم فقبل أن يتمكنوا من رؤية وجه إنساني أو سماع صوته، يمكن للجنود تشغيل البندقية باستخدام ذراع التحكم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما الذي يتم حراسته؟ شارع شبه فارغ بلا حياة، أم شاحنة معطلة ولافتات ذات تاريخ مفبرك تسعى إلى إعادة صياغة اضطهاد المحتل باعتباره ضحية. أم الكثير من أعلام الاحتلال في مستوطنة تؤوي حوالي 400 مستوطن، حيث لا يُسمح للفلسطينيين أن تطأ أقدامهم المكان.
في الحقيقة، لم يبق أي أثر للحياة الصاخبة التي لا تزال موجودة خارج هذا الحاجز المتوسع، الحياة التي يفسدها المستوطنون ببناء المزيد من المستعمرات، لتتحول الأسواق الفلسطينية إلى أقفاص، محاطة من كل جانب ببوابات وشبكات سلكية.
وفي الخليل، أغلقت قوات الاحتلال الإسرائيلية 1350 متجراً فلسطينياً خلال 23 عاماً، ما أدى إلى تدمير الحياة الاقتصادية للمدينة وزرع البؤس واليأس بين سكانها، وأصبح يتعين على 365 طفلاً ممن يذهبون إلى المدارس القريبة من المستوطنة عبور ثلاث نقاط تفتيش عسكرية مرتين كل يوم للوصول إلى الفصول الدراسية والعودة إلى منازلهم. وفي المجمل، هناك 28 نقطة تفتيش عسكرية في منطقة تقل مساحتها عن خمسة كيلومترات مربعة، أي نقطة واحدة لكل 25 مستوطناً، ومع توسع المستوطنات، يخفت قلب المدينة النابض تدريجياً.
الحق في البقاء
لا يمكن قياس جغرافية الاحتلال الصهيوني بخطوط مستقيمة، فبالرغم من أن القدس تبعد عن بيت لحم أقل من 10 كيلومترات، لكن الفلسطينيين الذين يعيشون في بيت لحم لا يمكنهم قطع المسافة، فالفلسطيني الذي يعيش في الضفة الغربية، والذي لا يزال يحتفظ بمفاتيح منزله في القدس، أقرب إلى ساو باولو، أو جوهانسبرغ، أو بكين منه إلى موطن أجداده، لا يستطيع التنقل لأن الاحتلال كتب القواعد التي تتحكم بحركته.
وفي القدس، تُمنح الإقامة لأولئك الذين تقع “حياتهم المركزية” في المدينة، وهو مفهوم قانوني غير محدد، غالباً ما يتم تفسيره وفقاً لأهواء سلطات الاحتلال، حيث يفقد الفلسطينيون الذين أجبروا على ترك منازلهم في القدس الشرقية “حياتهم المركزية” في المدينة، وفي هذه العملية يفقدون حقهم في البقاء.
إلى ذلك، ينطوي فقدان الإقامة على الاستبعاد التام من الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فلا يمكن استئجار منزل، أو فتح حساب مصرفي، أو الالتحاق بالجامعة، أو العثور على عمل.
وفي السياق، ترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلية ما يقرب من 95% من طلبات البناء الفلسطينية، حيث يصبح من الصعب للغاية على الفلسطينيين العثور على مساكن جديدة. وهكذا، يضطرون للعيش في أحياء أو مخيمات في الضفة الغربية ذات الكثافة السكانية المتزايدة، والتي لا تزال عرضة للتمزيق المنتظم من خلال اقتطاع المزيد من الأراضي.
منذ عام 1950، كان مخيم عايدة للاجئين في بيت لحم موطناً لآلاف العائلات الفلسطينية التي فرت من النكبة، من حملة التطهير العرقي التي شهدت طرد قوات الاحتلال لأكثر من 750 ألف فلسطيني من منازلهم في عام 1948. لقد جاؤوا من أكثر من 27 بلدة مختلفة، ولا يزال أكثر من 6000 شخص يعيشون هناك اليوم في مباني شاهقة مؤقتة من الطوب والخرسانة تختبر حدود السلامة الهيكلية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الكثافة السكانية للمخيم تبلغ 77,464 نسمة لكل كيلومتر مربع، وهي واحدة من أعلى المعدلات في العالم. كما يلوح فوقهم الجدار العازل الذي يبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار، ما يلقي بظلاله الدائمة على محيط المخيم.
وفي أزقة المخيم الخانقة، يتدرب عناصر الكيان المحتل بشكل روتيني على تقنيات العنف القاسية، حيث تقوم كل بضعة أشهر الشاحنات العسكرية الإسرائيلية برش الحي بالفضلات، كما توجه خراطيمها نحو النوافذ المفتوحة، وفي بعض الأحيان، يقتحم الجنود أسوار المنازل ويضعون المتفجرات.
يضيف جيرديلو قائلاً: مخيم عايدة هو المنطقة الأكثر تعرضاً للغاز المسيل للدموع في العالم، ففي الدقائق التي تلت وصولنا، شاهدنا وابلاً من قنابل الغاز المسيل للدموع تنطلق من سطح سيارة مدرعة تستهدف العائلات التي تجمعت لتأبين أقاربها المتوفين في المقبرة، وعندما زار وفدنا المقبرة في وقت لاحق من ذلك المساء، هددتنا قوات الاحتلال بالسلاح.
يتحدث الإفلات من العقاب المسموح به أمام المراقبين الدوليين عن الفظائع التي تحدث في غيابهم، وقبل ليلة واحدة من وصولنا إلى مخيم عايدة، أطلق الجنود الإسرائيليون النار على شابين بالرصاص المتفجر، وهي ذخائر محظورة بموجب القانون الدولي.
من المؤكد أن النكبة لم تنتهي أبداً، فعندما تشجب القوى الاستعمارية القديمة العنف الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية بحسب زعمها، فإنها بذلك تبيض وجه العنف المستمر والزاحف للاحتلال الاستعماري الذي عانى منه الشعب الفلسطيني في كل جانب من جوانب حياته منذ عقود من الزمن.
النكبة لم تنتهي أبداً
منذ عام 1948، فقد الشعب الفلسطيني أكثر من 85% من أراضيه، فقد أدت العمليات العسكرية التي يقوم بها الاحتلال إلى حصرهم في سلسلة من السجون المفتوحة، حيث يتعرضون للقتل والتجويع، بينما يقتلع الصهاينة بساتينهم ويسكبون الأسمنت في آبار المياه الخاصة بهم، ويطردون عائلاتهم بالغاز المسيل للدموع، أو يشعلون النار في محاصيلهم، أو يسممون أراضيهم بمواد كيميائية.
لقد تصاعد هذا العنف، بتشجيع مباشر من حكومة الكيان الفاشية الآن بشكل علني، ففي الأشهر التسعة الأولى من عام 2023، قتلت قوات الاحتلال عدداً أكبر من الفلسطينيين في الضفة الغربية مقارنة بأي عام منذ أن بدأت الأمم المتحدة في متابعة الوضع.
يتابع جيرديلو، بالرغم من كل الممارسات الشنيعة التي يمارسها الاحتلال لتهجير الفلسطينيين من أرضهم، فقد تمكنت المقاومة من تحطيم أسطورة ” الجيش الذي لا يُقهر”، وعلى الرغم من العنف الروتيني، التقينا على طول خطوط الاحتلال المتعرجة برجال ونساء وأطفال برؤؤس مرفوعة وابتسامات دافئة وأعين صابرة، لقد رحبوا بنا في منازلهم ومجتمعاتهم، وأخبرونا بقصصهم.
وعلى النقيض من ذلك، فكلما اتجهنا إلى داخل الضفة الغربية، كان الرعب يبدو واضحاً على قوات الاحتلال، وبدا أنهم، وهم يحملون بنادقهم، مستعدون في جميع الأوقات لإطلاق العنان لأعمال عنف بصورة غير متناسبة ضد كل من حولهم. ويبدو الأمر كما لو أنهم شعروا بأن النظام الاستعماري لا يمكن أن يستمر دون أي تكلفة عليهم، وهو الواقع الذي أصبح الآن موضع تركيز حاد.
ترجع جذور هذه الهشاشة إلى حقيقة بسيطة، وهي أن الشعب الفلسطيني ليس لديه خيار آخر، تم سلبه وطنه، وجردت العائلات الفلسطينية من ممتلكاتها في خضم المذابح التي يمارسها الاحتلال، وسُرقت ثرواتهم، وفي كل مرحلة، كان لمضطهديهم خيار واختاروا العنف، فالصهيونية مرتبطة بمليون خيط بالإمبريالية والرأسمالية.
فقد تلقت الحركة الصهيونية في أيامها الأولى دعماً كبيراً من الإمبراطورية البريطانية التي سعت إلى الحفاظ على قبضتها في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. واليوم، تدعمها الولايات المتحدة وأتباعها باعتبارها قاعدة أمامية للإمبراطورية في غرب آسيا، وهي قاعدة أمامية مصممة لتعزيز وتغطية طموحات الغرب الإمبريالية والقومية العرقية في المنطقة، وبالتالي، فإن هشاشة “إسرائيل” هي أيضاً هشاشة الإمبريالية. إن ما تبديه الولايات المتحدة من دعم كبير لـ “إسرائيل” اليوم، يؤكد أن عملية التحرير في أي مكان تشكل تهديداً للإمبريالية في كل مكان.
لذا، فإن النضال من أجل تحرير فلسطين هو في الأساس نضال ضد الرأسمالية والإمبريالية، ومن المؤكد أن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن نضاله من أجل الحرية، ومواجهة أي رياح معاكسة. فبالرغم من أن الهجوم على فصائل المقاومة الفلسطينية لا هوادة فيه، حيث يقبع أكثر من 5000 فلسطيني في السجون الإسرائيلية، لكن قوة العمل الفلسطيني آخذة في الصعود.
ففي مختلف أنحاء فلسطين، نظمت نقابات الأطباء والمعلمين إضراباً تاريخياً ضد الاحتلال الإسرائيلي، والآن، بينما يتغلب الشعب الفلسطيني على احتلاله، يرى مراقبون أن القوى الشعبية المناهضة للإمبريالية في الخارج، لابد ستعمل على سحق الإمبرياليين الذين يؤيدون الاحتلال.
فعلى مدار التاريخ الطويل، أصبح التحرر من الاستعمار أمراً لا مفر منه، فكما أعلنت دول العالم في إعلان الأمم المتحدة بشأن منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة عام 1961، فإن عملية التحرير لا تقاوم ولا رجعة فيها إلى أن يتحقق الوعد بإقامة دولة فلسطين.